dimanche 29 janvier 2012

مواء و زئير

كان رجوعه إلى حارتنا يوما مشهودا. عمّت الفرحة أنصاره و هم كثير، أثقل الامتعاض قلوب العديدين و سادت اللّامبالاة على البقيّة.
غاب "الضاغن" عن الحارة زهاء العقدين ليعود في آخر كهولته نشطا صلبا كما عهدناه.
و الحقيقة أنّه دُفع للهرب دفعا في تلك الأيّام الحالكة من تاريخ حارتنا حين استحكم فينا الفتوّة "الخاوي". كان فتوّتنا قبيحا بغيضا أصمّ أبكم لكنّه ذو قوّة بدنيّة خارقة ساد بالعنف و الظلم. و لمّا كان هو أصمّ أبكم، كان تحريك الشفاه جريمة في عينه فلم يفلح عنده إلا المهرّجون البهلوانيّون.
أمّا "الضاغن" فلم يضطرّ إلى الفرار لأنّه غنَّى أو صرخ أو حرّك شفاهه و لكنّ لأنّه كان يربّي أسدا. و قد اتّخذ أنصارا فَتَنَهُمْ حبّه و حبّ الأسد. و كان الخاوي ينظر بعين الرضا للضّاغن غير أنّه أمره بقتل الأسد لئلّا يثِبَ يوما فيأكل من في الحارة جميعا. و ما كان الخاوي ليخاف إلّا على نفسه و إن خاف على أحد من الحارة فلجزعه أن تنقص الإتاوة. رفض الضّاغن قتل الأسد و تململ أنصاره و أخذتهم العزّة بقوّة الأسد لكن أتباع الفتوّة قتلوا الأسد و استباحوا أعراضهم و دماءهم و منعوا تربية الحيوانات إلاّ الفئران. أمّا الضّاغن فقد فرّ بجلده بعيدا حيث لا فتونة و لا أسود. و قبع الضّعاف من أصحابه يذوقون الويلات إلى أن ثار نزر قليل من أهل الحارة و قتلوا الخاوي و تعاهد الناس على مغادرة نظام الفتوّة إلى الأبد و على إنصاف المظلومين. عندها رجع الضّاغن.
كان أغلب أهل الحارة لا يستسيغونه و كانوا على مقتهم للخاوي يرون الضّاغن مخطئا لتربيته أسدا بين السكّان. لذلك أصرّ الكثيرون على التأكّد أنّه لا يخفي أسدا فيما حمل من أمتعة. حلف الضّاغن على ذلك بأغلظ الأيمان إلاّ أنّ أحدهم أشار لصندوق ليستجليه. فإذا فيه حيوان غريب له رأس قطّ مع لبدة لا تكون إلاّ لأسد و جسم، على صغره، ذو عضلات قويّة و مخالب طويلة لا تكون لقطّ كما ألفناه. علت الأصوات "هذا أسده اللّعين، و لم يكن من التّائبين" فأجاب الضّاغن و أنصاره "هذا قطّ وديع، تالله لأنّنا من الصّادقين". و غمز الضّاغن بعينه للحيوان فانطلق يموء بصوت يبعث الدفء و يثير الحنين و أخذ يتمسح في كسل و وهن كالقطّ المستكين.
التفت إلينا و أنصاره و لسان حالهم يقول "الآن حصحص الحق". فسكت أغلب المحتجّين و غمغم بعض المستائين. فأقبل الناس عليهم يقولون "هذا قطّ، لقد سمعنا المواء، صحيح أنّ شكله غريب لكنّنا لسنا عالمين بكل أنواع القطط". فأجاب هؤلاء "هذا أسد، ما في ذلك شكّ، سيأكلنا جميعا إذا كبر" فأصرّ الآخرون "هذا قطّ قطّع مواؤه قلوبنا، أفلا تسمعون؟". و أمّا أنا فتيقّنت أنّه قطّ متى أراد و أسد متى أراد و أسميته "الأسقط".
انفضّ الجمع و آب كل إلى بيته و خال أكثرنا أنّ هذا آخر عهدنا بالأسقط. و الحقيقة أنّه لم يكن إلا بداية لعهد طويل من المتاعب.
انطلق الأمر عندما بدأ الضّاغن يتجوّل مصطحبا الأسقط و هو ينمو يوما بعد يوم. فإذا رمقه أحدهم بنظرة لوم غمز الأسقط لينطلق في المواء الشجيّ ، فيهزّ مَن عزم اللّوم رأسه حيرانا و قد عقدت رقّة المواء لسانه و أرخت عضلاته.
و أصبح يرتاد بيت الضّاغن أنصاره القدامى و أنصار جدد. يجلسون السّاعات الطوال ليشاهدوا الأسقط يؤدّي الحركات البهلوانيّة الخارقة كأن يقفز أمتارا في الفضاء أو ينقضّ على خروف فيرفعه بين فكّيه. و مع ذلك كان طوع بنان سيّده، تسكن حركاته من توّه بإشارة و ينطلق كالإعصار بأخرى. و كان أنصار الضّاغن يتكاثرون كل يوم، تجذبهم العروض و الأحاديث المغرية عن متعة السمر.
لكنّ الجدل تفاقم لمّا أقضّ الزّئير مضاجعنا ذات ليلة. قمنا نتقفى الصوت فإذا نحن أمام بيت الضّاغن و قد غصّ بأنصاره. أقبلنا عليهم مستفسرين عن الزّئير، فأقسموا بالله العظيم أنّهم لم يروا إلاّ قطّا و أنّ الزّئير لم يكن إلاّ لعبة من لعب العرض فالأسقط يجيد كلّ الألعاب البهلوانيّة حركة و صوتا. و خرج علينا الضّاغن فإذا الأسقط في حضنه يموء مواءا تنفطر له القلوب. قلّبنا وجوهنا، ضربنا كفّا بكفّ، أنُصدّق ما لا يقبله عقل و لا منطق؟ أيصدر ذلك الزّئير الرّهيب عن قطّ وديع؟ و ماذا عن شهادة إخواننا؟ أنكذّب ذلك الجمع الغفير؟ أليسوا إخواننا أسيرضوْن بأسد يساكننا حارتنا؟ أم تراه الضّاغن علّمهم ترويضه و أصبحوا مدمنين على عروضه البهلوانيّة؟ كلّ هذا و المواء الشجيّ يرخي أعصابنا و أنصار الضّاغن يرمقوننا بنظرة تقول "أبعد هذا تشكّون؟". حتّى لقد شعرنا أنّنا معتدون باغون.
انفضّ الجمع و عدنا، تتنازعنا الريبة و التخوّف و إرادة التطمين. و قال البعض "إيّاكم و الظلم فقد عانى الضّاغن و أنصاره الأمرّين، فهل تُحيون ذكرى الفتوّة و تتسلّطون عليهم؟ أم تنتصرون لإخوانكم الذين ذاقوا العذاب أضعاف أضعافكم؟".
صمتنا، كبّلنا الشعور بالذنب و مقتُنا لذكرى الفتوّة و أعماله و خلدنا للنّوم.
لكنّ الخوف لم يُوأد في قلوبنا، كان ينمو كل يوم مع نموّ الأسقط و أصبحنا نراه في الشارع يزأر فنلتجئ للضّاغن فيغمزه فينطلق في المواء. و في الليل أصبحنا ننام على صوت الزّئير. استفسرنا مرّات و مرّات فقالوا أنّه صوت بهلوانيّ و أنّ الأسقط قطّ، قطّ أصيل.
ثم حدثت الكارثة. كان الأسقط يتجول في الحارة و قد كبر و اشتدّت عضلاته فوثب على صديق لنا و افترسه ثم أردف باثنين هبّا لنجدة الأوّل. هرعنا إلى الضّاغن نستصرخه أن هذا الأسقط يفترس اخواننا فاشتدّت نظرته و رفع حاجبيه قائلا "ذلك جزاء من ذَكَرَني بسوء". انهرنا و أُسقط في أيدينا و صحنا "كيف يا شيخ، ألم تقل أن الأسقط قطّ وديع؟ ألم تقل أنّ زئيره لعب و تمثيل و أنّ الأصل فيه المواء و أريتنا إيّاه يموء و يتمسّح كالقطط؟". فالتفت لأنصاره و قال " أتشهدون أنّ هذا الأسقط؟" قالوا "نعم". قال "أتشهدون أنّي لم أُخفه عليهم منذ رجعت؟ و أنّهم سمحوا لي بتربيته؟" قالوا "بلى". قال "أتشهدون أنّي لم أغشّهم و لم أخدعهم؟" قالوا"نعم، و لو منعوك تربية الأسقط لأجبتهم لكنّهم معتدون باغون يسيرون بسيرة الفتوّة المقيت فإن لم ينتهوا لنهجمنّ عليهم و لنغريّن الأسقط بهم يأكلهم". و عندها انفصل عنّا رهط من الجبناء لينضمّوا إليهم.
و منذ ذلك التّاريخ دخلت الحارة في فترة عصيبة من العنف و الدم و الأحزان تقاتل فيها الأسقطيون ضدّ باقي الحارة.
و بعد سنوات طوال، انهزم الأسقطيون و قُتل الأسقط و أُسقط في جبّ عميق.
و لمّا انفرجت الأزمة، خطَطْنا أهمّ قانون لحارتنا "تُمنع تربية و رعاية جميع الحيوانات إلا الطيور و يعتبر مجرما كل من يضع للطير قفصا".

vendredi 27 janvier 2012

أليس منكم رجل رشيد؟

رغم عميق اقتناعي بأنّ من اشتغل في السّياسة هاجسه الأوّل السلطة حتّى و إن كان متدثّرا بعباءة الدّين، فإنّي لم أكن أحسب أن يصل الأمر إلى حدّ يجعلني أشكّ أنّي في صحو و لست في حلم ثقيل.
أوّل ما صدمني مشروع حركة النهضة المتعلّق بتوزيع السّلط العموميّة، و خاصّة هذان النقطتان :
-         تُعيّن الحكومة ب %50 و تُحجب عنها الثقة ب %66،
-         إعتماد كلّ فصل من الدستور ب %50 ثمّ المصادقة على كلّ الدستور ب %66 فإذا تعذّر ذلك يتمّ المصادقة عليه بعد شهر ب %50.
لم أجد ما أعلّق على هذا إلا بعبارة "ما هذا؟ ما هذا؟" أهي نكتة سمجة و الحال أنّ المقام جلل؟. أم هو جدّ و تلك إذا الطّامة الكبرى؟.
لقد شعرت بما شعرت ذات 14 جانفي أمام الداخليّة. أنّني مهدّد في كياني و في حريّتي و في قيمتي الإنسانيّة. أنّ هناك من يحتقرني و يستهزأ بي و يزدريني و لا يقيم لي و لبني وطني وزنا.
ثمّ امتعضت كثيرا عندما سمعت السيّد نور الدين البحيري المسؤول في النهضة يقول في إذاعة، و قد سألوه رأيه عمّا يدور في كليّة منّوبة، أنّه و حزبه يندّدون بالعنف أيّا كان مأتاه و أيّا كانت هويّته و أنّه يجب إنتظار ما ستكشفه التحقيقات بخصوص هذا الأمر و ما إلى ذلك من لغة متكلّسة جوفاء تنّم عن إضمار أكثر من إعلان. لقد أحجم الرّجل أن يستنكر صراحة هذا العمل و أن يقول كلمة حقّ و يرفضه مخافة أن يخسر بعضا من أصوات النّاخبين في قادم الأيّام.
و بغّض النّظر عن الإنتماءات الإيديولوجيّة و عن الإنتماءات الحزبيّة، فإنّي أقول لبني وطني ممّن يعتقدون أنّ مرجعيّاتهم دينيّة كما يفهمون الديّن، أقول أنّ الشّهادة من الدّين و أنّ الرّجال مواقف. و أنّ لا شيء يبرّر كتمان كلمة حقّ.
إنّ الجامعة التونسيّة هي التي كوّنتكم و علّمتكم و جعلتكم مثّقفين و فيها رجال أفنوا أعمارهم من أجل الوطن و منها خرجت جحافل الإطارات و المثّقفين و الفنّانين و التقنيّين الذّين أضاؤوا ليالينا أيّام ساد الخوف و انحشر الكلّ في بيته و الذّين سهروا على موانئنا و مطاراتنا و قطاراتنا و على تزويد أسواقنا و الذّين علّمونا و وسّعوا آفاقنا، إلخ.
يا بني وطني في النهضة، أليس منكم رجل رشيد يذّكركم أنّ الله ضرب مثلا في الاعتداء و النّهم، رجلا له 99 نعجة فأراد أن يضمّ إليها نعجة صاحبه الوحيدة؟
يا بني وطني في النهضة، أليس منكم رجل رشيد يعلّمكم أنّ الخلافة الراشدة التي تيّمتكم هي أفعال راشدة لرجال رشيدين؟. و أنّ التاريخ لم يخلّد إسم عُمر لكثرة صلاته أو صومه. من يدري كم صام عُمر و كم صلّى فرضا أو نافلة؟ لقد خلّد التاريخ عدل عُمر و نُصرته الضّعفاء و إرساءه الدّولة الإسلاميّة. و أنّ الخلافة لم يذكرها التاريخ كمؤسّسة محمودة و الدّليل أنّكم لا تجدون اليوم ما تذكرونه من مئات الخلفاء إلّا خمسة.
يا بني وطني في النهضة، أليس منكم رجل رشيد يقول لكم أنّ خيركم من كان خيرا لشعبه ؟ و أنّ كلمة الحقّ تعبُر العصور و الدّهور و أنّ إرادة الحياة و الحريّة لا تعلو فوقها إرادة. و يقول لكم أنّ التاريخ خلّد بلال الحبشي لا لرفعة أصل أو لصلاة و صيام و إنّما لإرادته الحرية و إيمانه بغد أفضل و هو يردّد "أحد أحد".
يا بني وطني في النهضة، أليس منكم رجل رشيد يحثّكم على البرّ بشعبكم و يعلّمكم أنّ تاريخ الشعوب لا يرحم و هو غربال دقيق لا يُبقي إلاّ على من نَفعها حقّا؟ أم ألهتكم الكراسي حتّى نسيتم من كان ذو الفضل عليكم؟
يا بني وطني في النهضة، أليس منكم رجل رشيد يذكّركم نضالات شعبكم و عذاباته القرون الطّوال في غياب الحريّة و القيمة الإنسانيّة؟
يا بني وطني في النهضة، أليس منكم رجل رشيد يأتي بكم إلى كلمة سواء بينكم و بين جميع بني وطنكم ألا وهي إرادة الحياة و الحريّة و إعلاء القيمة الإنسانيّة؟

dimanche 15 janvier 2012

في سرداب الوهم

مرّة أخرى يخرج منّا مهووس بالعظمة يتحرّق شوقا لتخليد إسمه في التاريخ و لنا نحن أغاني الصبر و آهات العذاب.
مرّة أخرى يخرج منّا لاهث وراء مجد شخصي يخال السراب حقيقة و يتراءى له وهم التاريخ مستقبلا بينما يكون نصيبنا، نحن، ضنك العيش و مرّ الحسرة.
مرّة أخرى يكشف واحد منّا عن غيرته من الإسكندر الأكبر و من نابوليون و من عظام الغزاة و يبتغي لإسمه مكانا بين أسمائهم و يرسلنا، نحن، لليالي العذاب و لأيّام البؤس و الشقاء.
مرّة أخرى يقوم فينا مجنون يتخبّط رغبة في بناء هرمه العظيم على أكوام جماجمنا ليخلّد التاريخ ذكراه و يلتهمنا نحن العدم.
مرّة أخرى يرمينا الدهر بمُضارب بمصائرنا و بمُراهن بجهدنا و قُوتنا و عملنا و إرادتنا فينجح وحده إذا نجح و لا ينجح. لكنّه ينال شرف المحاولة و يقدّم لنا نحن وليمة من الإعتذارات و سبّ الأصهار و تخوين الأقربين و قصيدة هجاء عصماء للإمبرياليّة و لأعداء الأمة.
مرّة أخرى يقطع علينا الطريق مروِّج أفيون يجبرنا على استبدال شهوة الرغيف في أفواهنا بشبق اللهفة للتخدير في وعينا القلق التائه المصدوع. نقول له نحن نريد بناء المستقبل و تطويع القدر فيقول لنا أنّ طفولتنا السعيدة في نجد و تهامة و الربع الخالي.
مرّة أخرى يتفرّخ منّا دجّال يصرّ أن يصادر أحلامنا الإنسانيّة العفويّة البريئة ليُلقِمَنا أضغاث أحلامه العظيمة الخالدة العابرة للحدود. نقول له نريد أن نأكل و نشرب و نعمل و نشيّد و نبدع و نضحك فيقول لنا أنّ همومنا أعظم و أكبر و أنّنا إذا تقاسمناها هانت و اضمحلّت.
مرّة أخرى يُلِمُّ بنا المتطبّب الألف ليُطعمنا وهم الوطن الكبير و الصحاري الممتدّة و يدثّرنا بغطاء مجْد الفتوحات و عَظمة الخلفاء و يداوينا بالشعر الجاهلي و أخبار العرب و مجالس الأنس و السّمر في البلاط.
مرّة أخرى يتفرّخ منّا العصابيّ الألف فيُظهر بعض التاريخ و يُخفي كثيرا منه فيُحدّثنا عن حدود الدولة المترامية و يكتمنا وأْد الحريّة و يحدّثنا عن عظمة الخلفاء و هيبتهم و يصمت عن بؤس الناس و ذلّهم و يحدّثنا عن الغزو و قتل الأعداء و يُخفي عنّا قطع الرؤوس و التنكيل و مصادرة الأرزاق.
مرّة أخرى يأتينا البطل الواحد بعد الألف ليذود على حياض غرورنا و كبريائنا و شرفنا و يطمئننا أنّنا سرب صغير من قطيع كبير موزّع بين صحراء و صحراء و بين القرون الوسطى و القرن الواحد و العشرين. نقول له نريد أن نضع قانوننا و نسُوس أمورنا وحدنا حسب واقعنا و حسب عصرنا فيقول لنا أن السعادة هي أن يأتينا القانون بمرسوم من السلطان على بريد الخيل من بعيد، من قديم.
مرّة أخرى يتسلم دفّة مركبنا المُبحر في عاصفة هوجاء ربّان يتقاذفه نزق المغامرة و أحلام الطيش فينطلق في التزلّج الهستيري على الماء و يُضيع منّا البوصلة و يرى في ظهر كلّ حوت فاتك، اليابسة.
مرّة أخرى لا ينصفنا الزمان و يبتلينا بمن يبتغي أن يذهب برشدنا.
مرّة أخرى يأتينا من يريد أن يستنقذنا من سجن العقل ليطمرنا في سرداب الوهم.


وليد الشريف
خبير محاسب

samedi 14 janvier 2012

ثورة الإنسان في تونس

ثورة على البطالة، على الفقر، على الهوان، على الذلّ، على الجبن، على الخنوع، على الغشّ، على الكذب، على الزّيف، على الرّداءة، على السّماجة، على التكرار، على الملل، على الرّتابة، على ثقل الدّم، على البغاء السياسي و الإعلامي و الثّقافي، على العبارات الممجوجة، على التهميش، على تكميم الأفواه، على التّغييب، على التزلّف، على الحمق، على البلادة.
هي ليست ثورة الياسمين، و لو أن الاسم يكون ناجحا لملهى أو مقهى. هي لا تنحصر في الخبز و الكرامة و الحريّة. إنها تتعدّى كلّ هذا إلى مضمون أشمل و أعمق و أرقى. هي حرّكت كلّ جميل في الإنسان. كلّ ما ينشد الإنسان في أعماقه من ذكاء و حريّة و كرامة و أخلاق و حبّ للمرح و توق للجمال و رغبة في التّحليق. هي ثورة الإنسان في تونس ليعانق إنسانيّته و ينطلق في الفعل.
و هذه الثورة أجلّ من أن تختصر في إسقاط ذلك السوقيّ الفارّ أو إسقاط نظامه السياسي أو المجتمعي أو الاقتصادي. كلّ هذا ما هو إلا نتاج للثورة. أمّا الثورة ذاتها فهي حصلت في داخل كل وعي تونسي. انتصر التونسي على نفسه القديمة القابلة و المستكينة للذلّ و الهوان و الإنحطاط الإنساني، القانعة الخانعة المتخوّفة المكبوتة الراضية بمرتبة العبوديّة. قتل التونسيّ نفسه ليحييها من جديد.
الحديث عن حماية الثورة عن طريق أسماء أو مجالس ما هو إلا محض أوهام. الثورة أحيت كلّ وعي و كلّ نفس و حماية هذه الحياة لا تكون إلا بالفعل الشخصيّ الدّائم و الرقيّ بلا توقّف.
لا إسم يحمي الثورة و لا حزب يضمن حالتنا الجديدة. نحن من نكرّس وضعنا الجديد و نصنع مستقبلا جديرا بأن يعاش.
لن يكون بيننا طاغية آخر و لن نرجع للرّداءة مرّة أخرى. لا لأنّ نظامنا سيكون برلمانيّا أو أن برلماننا سيكون قزحيّا. و لا لأنّ رئيسنا سيكون طيّبا أو أن وزراءنا سيكونون وديعين متواضعين و دمثي الأخلاق. لكنّ لأنّنا نحن، نحن لن نكون عصا الطّاغية الطّويلة، لن نكون ديكوره، لن نكون شهداء زور، لن نخدمه، لن نكون جنده، لن نكون صحفيّيه، لن نكون قضاته، لن نكون محاسبيه، لن نكون أعوان إدارته، لن نكون شرطته، لن نكون أداة في يد الشّيطان. اليوم عيوننا متقدّة بالشعلة المقدسّة. اليوم أنفاس الإله في صدورنا. اليوم ذهبنا أبعد ممّا جال بخاطر أبا القاسم الشابي. هو الذي وصف حالة من لم يتعوّد صعود الجبال، لكنّنا صعدنا الجبال فليسمح لي باقتباس بيته الشعري الشهير ليصبح :
"و من يتعوّد صعود الجبال                        أبت نفسه العيش بين الحفر"
إذا ظهر بيننا طاغية فسيكون وحيدا كئيبا، يأمر فلا ينفّذ أحد، يكذب فلا يصدّق أحد، يأمر بالجلد فلا يستجيب الجلّاد، يأمر بالقتل فلا ينصاع السيّاف، يأمر بالظّلم فلا يطاوعه القاضي. سيدور حول نفسه يائسا ثم لا يجد بدّا من قتل نفسه ليرسلها إلى الجحيم أو ليحييها من جديد. و يلتحق و لو متأخّرا بثورة الإنسان في تونس.

mercredi 11 janvier 2012

من يُحبِط الثورة؟

إنّ الذي يريد إحباط الثورة هو من يصوّر لنا ليلا نهارا أنّنا على شفا جرف هارّ وأنّنا قاب قوسين أو أدنى من الهلاك و أنّ العالم يحشد الحشود ليداهمنا و أنّ عدوّنا محيط بنا و أنّنا خرفان تساق للذبح و هي لاهية و أنّ الغرب يحسدنا و يتحرّق شوقا لانتزاع هويّتنا و يريد أن يقتلع صوامع جوامعنا و يجتثّ القرآن من صدورنا و يمحي "قفا نبك" و "ليت هندا" من تاريخنا و يحرمنا، إلى الأبد، من بحور الخليل و نحوِ سيباويه و يبدّل عذريّة قيس ليلى، مجونا و كرم حاتم، بخلا و وفاء السموأل، غدرا و يحول بيننا و بين كسكسيّنا العريق ويختطف "بوطبيلة" من أسحار رمضاننا و يسكت مدافع أعيادنا و ينضو عنّا حتى سمرة وجوهنا و يخلع أسماءنا العربيّة. لأنّ الذي يقذف في أذهاننا هذه الوساوس، يجعلنا جزعين مرتابين، تفترسنا الفوبيات و يحيلنا إلى كائنات متخوّفة مرعوبة نتخندق في خندق المقاومة و الصّمود عوض الإنطلاق منتصرين و يلهينا عن البناء، بالدّفاع عن وهم كنزنا الثمين فيصبح كلّ همّنا أن نبحث عن حامي الحمى و الدّين الذي سينقذنا ويهدينا سَواء السبيل. و يستقرَّ الشّعور لدينا بأنّنا مساكين مستهدفون و أنّ عدوّنا ماكر عتيد، ننام و يسهر ليدبر لنا الشر العظيم و أنّ الحلّ في إتّباع من تفطّن لهذا العدوّ المبين. و ننسى أنّ خصْمَنا بيننا بل فينا بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد. و ننسى أنّنا ما ترديْنا في أسفل السافلين إلا لغياب القيم الإنسانيّة عنّا و جشعنا و طمعنا و قلّة ثقافتنا و غياب نبل الأخلاق عنّا و نزقنا و انعدام الوطنيّة في نفوسنا و فساد جلّ نخبتنا و سكوتنا على الضيم القرون الطويلة و خلوِّ نفوسنا من شوق الحريّة. بالله عليكم، ألم يكن تصوير الغرب كعدوٍّ لعبة بن علي و "الإستقواء بالخارج" كلمته و "استقلال قرار تونس" حجّته للتنكيل؟ بربّكم، ألم يجد بن علي في السعوديّة ملجأه الوحيد بعد أن لفظته أوروبا؟ بالله عليكم، ألم يكن سلاحنا الأعظم في ثورتنا، الإنترنت، بيد أمريكا و لم تمنعه عنّا لا ولم تحجب منه شيئا؟
إنّ الذي يريد الالتفاف على الثورة هو من يسعى لإيهامنا أن مآسينا و أحزاننا و فواجعنا سببها التطبيع و سببها الصهيونيّة و الغرب و إسرائيل. فنحسبَ أنّ من ألقى أصحاب الرأي في السجون هو التطبيع و أن من كمّم الأفواه و فرض الإتاوات، كالفتوّة، على النّاس هو الغرب و إسرائيل. و يذهب في ظنّنا أنّ مناطق الظلّ و البطالة و ضَنَكَ العيش و غمَّ الحياة الجاثم علينا و فقرنا المدقع و جهلنا و تهافت مثقّفينا هو من تدبير الغرب الرّجيم. و أنّ من زرع الفتنة بين العروشات هو الغرب، يُوقظها حين يشاء و ينِيمُهَا حين يشاء و نعتقد جازمين أنّ ذلك التّاريخ الطويل من القهر و السَحْل و امتهان الإنسان هو من صنع أمريكا و إسرائيل. و يسكن في ذهننا أنّ الغرب هو الذي أرسل إلينا التجمعيّين و الدستوريّين و الحسينيّين و الحفصيّين...إلخ. و ننسى أنّ عيوبنا هي من أرْدَتْنَا في هذا القرار المكين، فلم نكن نحبّ وطننا و لم نكن نمقت الكذب و النّفاق و التزلّف و المحاباة و كنّا جبناء لا نحضُّ على كرامتنا. و كنّا نحسد كل مُعتدٍ على القانون، أثيم و كنّا نتدافع على فتات موائد المجرمين. و كنّا نندفع للغشّ بشبق عظيم و كانت صدورنا ضيّقة حرِجَة في العمل و لم يكن لرفعة المعاني الإنسانيّة حظّ في نفوسنا. بالله عليكم ، من منكم جاءه زوار الفجر لأنّه أساء أدبه في أمريكا و إسرائيل؟ بربّكم ، ألم نكن نقتات من الكتب التي تسلق بن علي و حاشيته لننفّس بعض غيظنا، و هي كتب صدرت بكل حريّة في أوروبا؟ بحياتكم، أهُوَ التطبيع الذي زاحمكم في لقمة العيش و أنهك بالاحتكار أيّامكم و حشركم في الحافلات مسحوقين؟ أهُوَ الغرب من لغَّمَ طرقاتكم بالحُفَر و جعلها نوافير في وقت المطر و جعل الناموس بطل السّمر؟
إنّ من يريد إطفاء الشعلة المقدسّة التي اتّقدت في عيوننا و خنْق النخوة التي سكنت نفوسنا و نزْع الإيمان بقوّة إرادتنا و بأنّنا نطوِّع القدرَ متى عزمنا و عمِلْنَا و يريد أن يقنعنا أنّنا مساكين منكسرون يُسْرَى بنا إلى حتْفنا في ليل بهيم. و لا يرى فيما تحقّقَ منذ الثورة غير الردّة و يشكّك في كلّ شيء حتّى يكاد يقول أنّ الثورة من تدبير قوى الردّة و يغمض عينيه عن الإنجازات و لا يذكر إلا السلبيّات و يهوِّلَ الهِنات و يضخّم العَثرات كأنّه الغُراب في هذا المثل "إذا كان الغُراب دليلَ قومٍ، مرَّ بهم على جِيَف الكلاب". ثم لا يفتأُ يصوِّر أنّ وراء هذا مؤامرة عظمى و يولول و يندب و نفيق كلّ يوم على صريخه "وا صباحاه" حتىّ أحال فرحنا مأتما و بدّل أملنا يأسا و عوّض ثِقَتنا في المستقبل توجّسا منه و صبغ بمرارة الهزيمة ما كنّا نجد فيه حلاوة الإنتصار و زرع الفُتور أين كان العزم ينبض فينا. إنّ هذا هو الذي يمْقُت الثورة لأنّه يحبّ أن يفتَّ من عضُدنا و يزعزعنا و يعمي بصائرنا و يُدخِل الهلع في نفوسنا. فالحقيقة أنّ شوطا غير هيِّن قد قُطع و مكاسب الثورة لا تخفى كالهيئة العليا للانتخابات و حريّة التعبير و بعث الأحزاب و الجمعيات وبروز الإبداع و الطّاقات التي كانت مهمّشَة، إلخ. و لا أحد يُنكر وفرة السلبيّات و طول المشوار المتبقّي، و هذا يرجع إلى نقص الكفاءة و إلى استماتة عُتَاة العهد البائد في الدّفاع عن أنفسهم فضلا عن تردّي القيَم في مجتمعنا. أمّا أن نفهم أنّه دليل المؤامرة و برهان اليقين على فشل الثورة و على انتصار الردّة فهو الباطل الذي يُراد لنا أن نعتقده.
إنّ الذي ينقلب على الثورة هو من يتحرّق لهفة ليبعث لنا من القبور أمواتا لتحكمنا فيُحيلنا إلى أحياء أموات. و هو من لا يؤمن ببني وطنه و إنّما يُؤمن بعظمة آبائه الأوّلين و يريد أن يعيش، أبدا، كما ألفَاهُم فينتصر الماضي على الإنسان و يُقمَعُ الفردُ مِنّا و يُسحَق لينتصر أجدادنا الغابرون. و يصبح غاية فكرنا حُكمُ استنشاق بخار القِدر في رمضان. و أجَلُّ أحداثنا فتوى إرضاع الكبير أو القبلة بين العازبين.
نعم، هذا من لا يريد لنا خيرا و هو من يريد أن نبقى عبيدا نعيش أبد الدهر بين الحفر و لا يحبّ أن نتعوّد صعود الجبال لأنّه في الحقيقة يرى في هذه الثورة سبيله الوحيد و فرصته العظمى لإرساء عالم لا ثورة فيه.

وليد الشريف

lundi 9 janvier 2012

لا لديكتاتوريّة الجهل

لا يرتفع صوت اليوم إلا بالثّناء على عظمة الشّعب التّونسي و إكبار وعيه و ريادته. و التغزّل بإبائه للضيم و القمع و نضاله المنقطع النظير لإسقاط الدّيكتاتوريّة. و مدح قيم التسامح و الاعتدال و حبّ الخير المزروعة فيه. و الإشادة بوطنيّته و روح المسؤوليّة المتأصّلة فيه و التغنّي بثقافته و حداثته و وسطيّة إسلامه و رسوخ عروبته و بكل ما يدغدغ نرجسيته و يجعل المرء يرقص اختيالا و فخرا.
حتّى أن المنصت لهذا ليظنّنّ أنّ نظام بن علي كان نبتة وحشية نبتت، من غير بذر، في حديقة أزهار أو هو ذئب لقيط ألقي من صحن طائر في قطيع خرفان.
لا أحد تجرّأ و طرح السّؤال الذي ينخر في وعينا و نريد أن نخفيه. السّؤال الذي يفترس جماجمنا في صمت و نستميت في إنكاره. كأنّه ورم أليم لا يقوى أحد أن ينكأه.
كيف رضينا بهذه الرّداءة 23 سنةّ و طأطأنا الرّؤوس؟ و من قبل رضينا بديكتاتوريّة بورقيبة 31 سنة و من قبل بظلم الحسينيّين و العثمانيّين و الحفصيّين....
أترى كل هذا الحمل الثّقيل ألقي علينا من الفضاء و جاء من خارج بيئتنا و من خارج ثقافتنا و حضارتنا و من خارج أخلاقنا؟
أم هو وباء، منّا تشكل، و فينا وجد البيئة الملائمة العفنة فتفشّى و استشرى و باض و فرّخ و عشّش حتّى بلغت نتونته عنان السّماء؟
لقد سقط أغلب النّاس في ردّ الفعل فهم يتغنّون بالشّعب التونسي صباحا مساءا بنشوة المتشفّي من نظام بن علي الذّي كان يؤلّهه و يسبّح بحمده.
و الحقيقة أنّ نظام بن علي، كلاما، كان يتغنى بالشّعب التونسي و لا يدّخر ثناءا لتونس و لهويّتها و لريادتها و ثقافتها. ألم تكن تونس تبدو في خطابات بن علي أشدّ رقيّا من ألمانيا و الشّعب التونسي أكثر تحظّرا من الشّعب السويدي؟. ألم يكن كل شرّ، حسب بن علي، هو من عمل العناصر الدّخيلة على الشّعب و ثقافته و مقوّمات هويّته؟ و كذلك يقول كل ديكتاتور.
لأنّ المدح و الثّناء يعمي البصائر و يخدّر العقول و يرخي الهمم و ينشر الجهل و الحمق و يبلّد الأذهان و يفتّ العزائم و يذهب الطموح و الرغبة في التقدّم. و الشوفينيّة تجعل الإنسان واهما أنّه خير البشر و أنّه وريث المجد و النبل و الرفعة. و كلّ العمل قد قام به أجداده و دخل المجد في جيناته. فهو اليوم ليس بحاجة ليثبت شرفه الرّفيع و ليس بحاجة أن يتقدّم و يتغيّر لأنّه في أحسن موقع فإذا بارح موقعه ذاك انحدر و تدهور. و بذلك تتأسّس الديكتاتوريّة التي تخدّر الشّعب لتقتل القوى الخلاّقة فيه و حبّ التغيير و وعيه بعيوبه فينساق جذلا كالخروف إلى الذبح. بينما الديمقراطيّة تستوجب الاحتكام إلى الفكر و العمل على التمحيص و التحليل و الغوص في أعماق الذات و عرض كل المواضيع على مقياس العقل و الحكمة.
إن إزاحة الديكتاتوريّة تعني بالأساس إزاحة نظام يحجب الحقائق ليستحكم فينا. إزاحة نظام يغيّب الواقع لتلمع الصّورة.
إنّ الديمقراطيّة تستوجب كشف العيوب و تقصّيها بما يفترض ذلك من شجاعة للبحث في أصولها و للخوض في جذورها دون خوف أو إشفاق مما يمكن أن يتكشّف و يتعرّى و يظهر للعيان و لو كان انقلابا للمفاهيم السّائدة. و من دون فزع من نفض الدّعة و الطمأنينة التي يسدلها الجهل على النّفوس. لا نتردّد إذا وجب الكشف أن ما يعتقده النّاس أبيض هو في الحقيقة أسود أو العكس. فإذا وجب أن نقول أن قيم الوطنيّة ضعيفة في نفس التونسي نقولها. و إذا وجب أن نقول أن صوت العقل في بلادنا ما زال خافتا مطاردا محقرّا أمام صوت العاطفة و الحماسة الجاهلة نقولها. و إذا رأينا أن قيم التّسامح و قدسيّة الذات البشريّة و علويّة القانون ليس لها المجال الرّحب في نفس التونسي نقولها. نعم نقولها لنتناول عيوبنا بالدّرس و التمحيص و لا نغالط أنفسنا. نحن الذّين احترفنا الغياب و العصابيّة لنهرب من المسؤوليّة. فإذا أصاب الأمة شرّ فهو من صنع الغرب و الصهيونيّة و إذا اقترفنا جرما فهو من وسوسة الشيطان و إذا لم نتعفّف فذلك لتبرّج المرأة....أما نحن، فنحن الطّاهرون المطهرّون البريئون الضّحايا.
لا خوف أن نكشف مواطن الدّاء فينا و نسائل تاريخنا و حاضرنا لنصنع مستقبلنا. لسنا نحن من صنعنا التاريخ و لكنّ نحن من نصنع المستقبل و بإمكاننا أن ننتشل تاريخنا و نبوّئه مرتبة عليا إذا جعلناه، نحن، مقدّمة لمستقبل رائع.
إن المجال اليوم للحريّة و العمل و الإبداع و دحض الأوهام.
إذا لم تكن الثورة في نفوسنا و في عقولنا فلن يبقى منها مستقبلا إلا ذكرى إحراق مراكز الأمن و عدد الشّهداء و مصادرة الأموال و محاكمة الرموز. و ستذكر فصلا من فصول ماضينا بدأ بتاريخ و اختتم بتاريخ و ليست ينبوعا لا ينضب يتدفّق منه الإبداع و الانطلاق و القيم الإنسانيّة.
أنّنا ثرنا على القمع، فذلك عمل محمود متى كان مؤذنا بتملّك شوق الحريّة لأنفسنا. أمّا إذا كان ذلك أقصى طموحنا فسنبقى في غيبوبة و في حياة عصابيّة إلى أبد الآبدين. إن من الشعوب من لا يجد، اليوم، تعريفا لبلاده إلا بعدد شهدائها أو بملحمة تقادم عهدها أو بمجد ضاع على يديه أو حتى بموقف دبلوماسيّ أقرب إلى قصائد الهجاء و كان ذلك غاية انجازاته.
إنّ إزالة نظام القمع ليس إلاّ الخطوة الأولى أو قل هو تموقع صحيح على خطّ الانطلاق، ليس إلّا.
لسنا عظماء إلا بما سيأتي. إنّ هناك شعوبا خرجت منها جحافل من العلماء و الفلاسفة و الفنّانين و السّياسيّين و الرّياضيّين و لا زالت في تقدّم دؤوب لا تستريح و لا يثملها انتصار.
فلنشرب أكسير الحرية لا لنسكر و لكن لنفتح أعيننا للنّور لئلّا نساق كالشّاة إلى ديكتاتوريّة الجهل.
إنّ ديكتاتوريّة الجهل أشدّ وطأة و أكثر استحكاما من ديكتاتوريّة القمع. فالقمع يمكن أن تتخلّص منه إذا جمعت له العدّة. و القمع يمكن أن تفشله إذا لم تخدمه. أمّا الجهل فهو يستشري كالمرض الخبيث فيفسد العقول و يعمي البصائر فلا تجد من يناصرك عليه و يصبح الكلّ مساهما فيه مغتبطا به متوجّسا من الحسد.
وليد الشريف

dimanche 8 janvier 2012

اليثربيون الجدد

لكم أعشق ذلك العبد الحبشي الذي لم يعرف في حياته الأولى إلّا أغلال الرقّ و عبادة الأوثان. و يوم دعاه الصادق الأمين عليه الصلّاة و السلاّم، لبّى النداء دون أن تبهته معجزة فيزيائيّة و ما نزّل من القرآن يومئذ لا يزيد عن بضع آيات. ما صام و ما صلّى و ما رجم الشيطان بعد، لكنّه لبّى النداء و تحمّل الأذى إلى أن احتار فيه جلّادوه و أصبح معجزة في الإصرار، ترتاد مشهد عذابه كلّ قريش.
لبّى نداء الإنعتاق و الحريّة و الرقيّ الإنساني. ثار في نفسه لا لجوع و لا لعطش و لكن ليعانق قيمته الإنسانيّة. نفض عنه قديمه و تبرّأّ من عاداته و تقاليده و من جميع إرثه الفكري لأنّه آمن بالتقدّم و بقيمة الإنسان، فاكتسب مكانة جعلت شهرته تقطع التاريخ إلى اليوم و جعلت سيّدنا عمرا يقول عنه "أبو بكر سيّدنا و أعتق سيّدنا".
و اليوم، هناك من باسم الهدى و الرحمة اللّذان أنزلا للبشر، لا يرضى أن يتزحزح قيد أنملة عمّا ورث من تقاليد و عمّا في ذهنه من أفكار بسطت سجفها في عصر غاب عنه أمثال ذلك الحبشي.
هنالك اليوم من يسلب الإنسان حقّ التقدّم و سنّ الجديد. هنالك اليوم من يحتقر قدرة الإنسان و يراه غير جدير بخلق التصوّرات و ابتداع المفاهيم المواكبة للعصر. و كأنّي به ينفسه المكانة التّي أولاه الله و يضمّ صوته لإبليس حين هزأ من قيمة الإنسان و رفض أمر المولى بالسجود له بينما سجدت الملائكة المعصومة لخليفة الله. سجدت للخطّاء لأنّه صاحب العقل.
هنالك اليوم من يعتقد جازما غاضبا حانقا رافضا صامّا أذنيه و عقله، أنّ الإنسان، منذ تكوّن المجتمع الإسلامي الأوّل في يثرب، لا يتقدّم و لا يستطيع أن يبدع و يخلق. و يصرّ مكابرا متيقّنا متحجّرا متحفّزا، أنّ القوانين التي حكمت من كان قبل هنيهة يئد بناته و يعكف على صنم صنعه و من كانت تسكنه حميّة الجاهلية، هي نفسها القوانين التّي يجب أن تحكم من ولد في القرن 20 موحّدا منذ 14 قرنا.
سيقول لهم شباب تونس أنّه لا يقلّ عن بلال الحبشي أملا في الله و حسن ظنّ به و ثقة في قدرة الإنسان و منزلته عند الله. سيقول لهم شباب تونس أنّه مع عميق احترامه لرموز تاريخه و للشجعان الذين أعزّوا دين الله، فإنّه لا يرضى أن يكتفي في حياته بما سطّر أبو حنيفة و مالك و الشافعي و ابن حنبل و أنّ يكون كل حظّه من العمل و الدنيا، تطبيق ما قال ابن تيميّة و ابن قيّم الجوزيّة و الماوردي.
سيقول لهم شباب تونس أنّه اليوم ندّ للعالم، بنّاء للحضارة. و أنّه مقتنع أنّ الناس خلقوا من ذكر و أنثى و من شعوب و قبائل للتعارف و أن الأكرم هو الأتقى.
سيقول لهم شباب تونس أنّه يهوى السينما و المسرح و الرقص و الغناء و الرسم. و أنّه لن يتنازل عن صوت فيروز و ماجدة الرومي و عن قصائد نزار و ألحان عبد الوهاب و آهات أم كلثوم و همسات "خوليو إقليزياز" و أنّه يحلّق رقّة و إنسانيّة مع حليم و شادية في أغنية "حاجة غريبة"... و أنّه يذوب شوقا لمراقصة حبيبه على أنغام "السلو" و "السالسا" و "التانقو".... و أنّ الشابّ التونسي يشرّفه أن يكون من يسكن إليه و من تجمعه به مودّة و رحمة، ندّا له عزيزا كريما، لأنّ في ذلك عزّة له.
سيقول لهم شباب تونس أنّه لم يسلم فحسب و إنّما دخل الإيمان قلبه و أنّه آمن أن الله أعزّ الإنسان و بعث له دينا يسنّ التقدّم و يحثّ عليه و يوجب التغيّر و التغيير لأنّ المولى وحده لا يتغّير. سيقول لهم شباب تونس أنّه لن يبقى جامدا متحجّرا متحنّطا عاكفا على السمكة، فهو قد تعلّم كيف يصطاد. و من فرط امتنانه و عشقه لنور المدينة الذي أضاء تاريخه، سيعمل على محاكاة هذا النور سرعة و حركة دائمة و استباقا و سبرا لأغوار الآتي.
سيقول لهم شباب تونس أنّه فهمهم و عرفهم و خبرهم فهم ليسوا إسلاميّين و ليسوا إخوانا و ليسوا في إتّجاه إسلامي و إنّما هم يثربيّون جدد.

وليد الشريف

جدّوا أو زولوا...لنرى السماء

يسود اليوم في السّاحة السياسيّة خطاب شعاراتيّ أقرب إلى السذاجة و البساطة منه إلى الحكمة و الموضوعيّة و الحصافة و القدرة على العمل. ترتفع الشعارات المردّدة للقيم و الأهداف المطلقة : العدل، إعادة الحقوق، القضاء على الفساد، التوزيع العادل للثروة، العيش الكريم، إلخ.
و هلّا جاءت الأديان و الفلسفات و النظريّات السياسيّة و الإقتصاديّة عبر العصور و الأزمان إلاّ لهذه الأهداف؟ و هلّا رامت البشرية منذ الأزل غير هذا؟
فإعلان هذه الشعارات هو من البساطة و السذاجة إن لم يكن من سوء النية بمكان. هل هناك خطاب في الدنيا يعلن برنامجا مضادّا لهذه القيم مثل : الظلم و العسف و التفقير و السرقة و الإستغلال؟
إنّ الخطاب اليوم و خاصة من جهة المتأهّبين للحكم لا يجاوز حدود العموميّات و البديهيّات المضحك ترديدها و التي لا تتجاوز قيمتها النفعية أو الإستخداميّة قيمة تأكيدات يقولها الفرد في أعقاب جلسة عائليّة أو بعد مشاهدة مسلسل مصري كأن يقول أنّ العدل يجب أن يسود المجتمع أو أن العمل يجب أن يكون متقنا، إلخ.
أسيكون التأكيد على هذه القيم و ترديدها إلى حدّ الضجر هو الكفيل بتحقيق و لو جزء منها؟ أليس تصوّر الحلول التقنيّة و البرامج العمليّة و محاولة استشراف الآتي و التحلّي بالجرأة الفكريّة هو الذي يساهم بالأساس في تحقيق هذه القيم و يجعل الناس ينعمون بثمارها؟
ألم تأت الأديان و النظريّات الأخلاقيّة بكلّ هذه المبادئ؟ و لكن هل حرّر العبيد غير مخترع الآلة و الطاقة البخاريّة (و هذه فكرة أوردها المنصف المرزوقي في كتابه "في سجن العقل")؟ و هل ساهم في العدل الإجتماعي و كرامة المسنين أكثر ممّن اهتدى لفكرة الضمان الإجتماعي؟ و هل ساهم في إرساء الحكم الرشيد و الحدّ من الظلم و القهر أكثر من الذّي أتى بمفهوم الفصل بين السّلط؟ إلخ.
قد يقول البعض أني تعسّفت على الفريق المتأهّب للحكم و أنّه ما فتئ يكرر و يؤكّد و يصرّ ملحّا أن في مقدمة أولوياته التشغيل و التنمية و التوازن الجهوي. و هل هناك حكومة في الدنيا في العصر الحاضر لا تكون هذه أولويّاتها؟ لكن المهم كيف ستتحقّق هذه الأهداف : أيّ توجّهات إقتصاديّة كبرى سننحو ؟ هل هناك فكرة خارقة غير مسبوقة ؟ هل هناك زراعة جديدة سنركّز عليها ؟ هل هناك صناعة جديدة سنطوّرها؟ هل هناك انجاز ضخم سيتّم ليغيّر وجه جهة من الجهات؟ هل هناك ثروة كامنة في بلادنا و لم نتفطّن لها أو لم نستغلّها الإستغلال الأجدى؟
هذا ما يجب أن يعلنه الفريق المتأهّب للحكم لتتحوّل تونس إلى ورشة عمل و تفكير لتقديم المقترحات و للإبداع.
سيقول البعض أنّ بوادر البرنامج قد لاحت و أنها تبشّر بكل خير : بيع القصور، التخفيض في رواتب الرئيس و الحكومة و التقشّف في مصاريف الدولة.
و سأقول أنا يا خيبتنا إذا كان هذا أقصى إبداعنا و منتهى ذكائنا. و يا بؤس أيّامنا القادمة و يا حزن لياليها إذا كانت انجازاتنا على هذه الشاكلة.
يا أيّها الفريق المتأهّب للحكم إنّنا لم نقم بالثورة لاقتسام الفقر و ترسيخ ثقافة التسوّل و الزهد في الدنيا و عيش الكفاف.
لقد قمنا بالثورة لنأكل حتى الشبع و نشرب حتى الارتواء و ننام ملء جفوننا و نمرح و نضحك ملء أشداقنا و نرقص و نبتهج و نبدع و نحبّ و نبيت متفائلين بالمستقبل.
يا أيّها الفريق المتأهّب للحكم إنّ الثورة في العقل و في طرق العمل و التفكير لا في الاكتفاء برد الفعل على الماضي و إعادة كتابته لأنّ ذلك يعكس ارتهانا له و عقما فكريّا خطيرا. إنّ الثورة تستوجب ذهنيّة جديدة قائمة على الشجاعة و الجرأة الفكريّة و التوق الجامح لصنع المستقبل و تطويع القدر لإرادة الإنسان التونسي.
يا أيّها الفريق المتأهّب للحكم إنّ من استحقاقات الثورة مجابهة الشعب بنقائصه و بعيوبه لا تمجيده و تملّقه لإفقاده الوعي و إدخاله في غيبوبة. إنّ من استحقاقات الثورة تصوّر الحلول الخارقة الغير المسبوقة لإدخال البلاد في نسق جديد يبعث الثقة في النفس و الشعور بالقدرة على الإبداع و النجاح و الإنتصار و يحرر الطّاقات و يجعل العيون تشتعل بالأمل و التفاؤل و الإقبال على الحياة و الثقة العميقة أن الإنتصار آت لا محالة. إنّ من استحقاقات الثورة القرارات الجريئة القائمة على العقل لا على الشعبويّة و دغدغة العواطف و الغرائز الوضيعة و المخيال الساذج البسيط. 
يا أيّها الفريق المتأهّب للحكم إنّ شباب تونس برهن أن له من الطاقات الخلاقّة و من الفكر ما يجعله في مقدمّة الأمم. و أنّه هازل عن جدّ و عن عمق و عن طاقة كبيرة للإبداع لا عن فراغ و سطحيّة و تميّع. فجدّوا أنتم أيضا و انضُوا عنكم عباءة المرشدين الأخلاقيّين و المبشرّين بالقيم و إلاّ سيقول لكم الشباب "زولوا ...لنرى السماء