samedi 8 décembre 2012

أفراح القبّة

جمعتهم السيّارة في ذلك الصباح الباكر وقد أنعشهم الجوّ البارد وقضى على بقايا النعاس في أجفانهم. كانوا أربعة من أعضاء المجلس التأسيسي استُحِثّوا في مهمّة عاجلة إلى قرية في الوسط الغربي يعتصم أهاليها منذ قرابة الشهر في الطريق العام قاطعين حركة المرور ومعطّلين المصالح. ورغم انتمائهم لتيّارات سياسيّة متنافرة، فقد ساد الودّ داخل السيارة التي مضت تطوي الأرض طيّا بينما انغمس أربعتهم في الحديث :
- أيّ مشكل هذا؟ لقد أُرغِم الواحد منّا أن ينهض باكرا ويتحمّل مشقّة التنقّل في هذا اليوم البارد
- وأنت المتعوّد على المجيء إلى قبة المجلس عند الظهر، هذا إذا قررت أن تأتي !
- يا رجل أنا آتي إلى القبّة عند الظهر أمّا أنت فلم أرك تحت القبّة طوال الأسبوع الماضي
- لي عذر في ذلك، لقد زارني أصهاري فاضطُررت لملازمتهم في قضاء حوائجهم وفي تجوالهم، أنتم تعرفون أنّ حسن الضيافة أمر مقدّس عند أهل الجنوب
- إيه...خاصّة بعد أن فاحت رائحة الأجور التي نتقاضاها، أصبح حسن الضيافة أقدس المقدسّات عند أهل الجنوب أو سواهم
- لقد ضخّم الإعلام المسألة وكأنّنا نتقاضى المليارات بينما لا يَعذر أحد مجهودنا المضني في كتابة الدستور ومراقبة الحكومة وسنّ القوانين
- نعم وكأنّ ليس لنا حياة خاصّة ومتطلبّات عائلية. أنا ورّطت نفسي في دينٍ لشراء منزل وكنت معوّلا على منحة التقاعد لكنّ الأمر سار على غير ذلك
- لا تغتمّ، ستسدّد الدين بمرتبّك، فأمامنا وقت طويل لإتمام مهمّتنا، كلّ كلمة في الدستور ستثير عشرات من اقتراحات التعديل والتدخلّات فضلا عن الجلسات المخصصّة للاستماع للحكومة وللمصادقة على القوانين ومناقشة الأحداث والوضع وأيام العطل والرّاحات، إلخ
- الحقيقة أنّي في بعض الأحيان تمنيّت لو كنت جئت إلى القبّة بعد هجرة خارج البلاد، لكنت أقبض ضعف مرتّبي وبالعملة الصعبة
- لقد أصبت في هذه فلا يخفاك أنّ للمهاجرين على الأنصار درجة...
انقطع الحديث عندما لاحظ النواب توقّف السائق بإشارة من دوريّة للحرس المروري. همَّ عون الدوريّة بتحرير محضر مخالفة لتجاوز السرعة القانونيّة لمّا استظهر أحدهم ببطاقة نائب بالمجلس التأسيسي فواصلوا الرحلة دون مخالفة وبعد تحية احترام من الأعوان.
- ما هي مطالب الأهالي في هذه القرية
- لقد تعدّدت المطالب والكلّ يريد كلّ شيء في الحال
- إنّهم يطالبون ببناء مستوصف، الحقيقة أنّ هذا مطلب يسير يجب تحقيقه
- يا رجل الضغط كبير على ميزانيّة الدولة، إنّها لا تحتمل مصاريف إضافيّة
- إنّه لا يتكلّف الشيء الكثير ويجب الضغط على الحكومة لبنائه وحلّ هذا المشكل
- وحتّى إن بنته الحكومة فلن تجد طبيبا أو ممرضا يقبل أن يعمل في تلك المنطقة النائية
- يا رجل لكل مقام مقال فلنبدأ بحلّ المشكل وسدّ هذا الباب
وفجأة رنّ جوال أحدهم فتوقّف الحوار. فهِم بقية الأعضاء أن المكالمة من مكتب المجلس. أشرق وجه النائب المتقبل للمكالمة وهو يقول :
- شكرا شكرا هذا شرف عظيم...بلغ الرئيس تحياتي وعرفاني...إلى اللقاء
نظر النّائب إلى رفاقه وعيناه تلمع حبورا فألفى وجوهم متطلّعة له وقد ارتسم عليها السؤال فقال :
- لقد كلّفني مكتب المجلس بمهمّة في الخارج. سأمثّل تونس في ملتقى برلماني لجنوب المحيط الهادي حول "التجربة النيوزيلاندية في تأنيث المناصب العليا في الدولة"
- وأين توجد نيوزيلاندا
- إنّها في المحيط الهادي وتفصلها عن تونس 18000 كم
- ولكنّ هذا سيكلّف ميزانيّة المجلس ثروة فتذكرة الطائرة لن تقلّ عن 7000 دينار
- فضلا عن التنقلاّت الداخلية وتكاليف الإقامة ومصروف الجيب
- وإن يكن، هذا من صميم أهداف الثورة، أنترك مكان تونس شاغرا في هذا المحفل الدولي؟ يجب التعريف بانجازاتنا العظيمة والسعي لإعلاء قيمتنا بين البلدان
- أنت قد شاركت في بعثتين للخارج إلى حدّ اللحظة وهذه البعثة الثالثة التي ستنعم بها
- اللهم لا حسد
- لست أحسدك ولكنّ العدل واجب، كلّنا نوّاب الشعب وكلّنا عنوان للثورة
- أنتم تعرفون أنّ بعض الزملاء نازعوني أحقيّة الخروج في البعثة الفارطة لكنّ القرعة فصلت بيننا وكنت سأتقبّل نتائجها لو جاءت على غير ما أشتهي
وتشعّب حديث البعثات فاستذكر الكلّ أحلى الذكريات والطرائف وما جلبوه من هدايا وما زاروه من أماكن.
وفي منتصف الطريق، تناولوا القهوة والمرطّبات في استراحة على الطريق السيّارة. وهاتف النّائب الموعود بالبعثة زوجته ليزفّ لها الخبر ويوصيها بإعداد حقيبته وقائمة بالمشتريات التي تودّها.
بعد ساعتين وصلوا لمدخل القرية المعتصم أهلها. أحجار وإطارات محروقة وشعارات كُتبت على ألواح، بضع نساء وبضع رجال وشباب وأطفال، عدد من الشاحنات مركونة على حافة الطريق وقد منعوها مواصلة السير والسواق يتفاوضون. نزل النوّاب والتحموا بالأهالي فغمرهم هؤلاء بالمطالب وقد تملّكهم التشنّج والعصبيّة :
 "لم تحصل أيّة ثورة، لم يتغيّر شيء، نحن نريد مستوصفا، يموت الواحد منّا بلدغة عقرب وقد تلد الحامل في طريقها إلى المستشفى الجهوي"، " نحن نريد زيارة رئيس الحكومة ورئيس الدولة..."
بعد لأي، تمكّن النوّاب من أخذ الكلمة فتداولوا عليها :
- إخواني، نحن نحيّيكم يا من صنعتم الثورة العظيمة ورفعتم رأس تونس عاليا. هنيئا لكم الحريّة والكرامة. ستتحقّق كلّ مطالبكم ولكنّ الصبر مفتاح الفرج. إخواني، إنّ الحكومة تولي منطقتكم الاهتمام الخاصّ والأولويّة المطلقة وقد رصدت لها اعتمادات ضخمة في ميزانية الدولة تبلغ كذا مليون دينار. أمّا المستوصف فقد تأكّدت من وزير الصحّة شخصيّا أنّه سيُشرع في بنائه الأسبوع المقبل.....
وقال كلّ ما يشبه هذا الكلام مع فوارق طفيفة في وصف عظمة الثورة والشعب ومساهمة أهالي المنطقة في الثورة.
في الأثناء، التحق على عين المكان معتمد الجهة والوالي بعد أن هدأت الخواطر. وحين أزف موعد الغداء، أخبر الوالي الوفد النيابي أنّ أحد كبار الفلاحين يستدعيهم للفطور وقد ذبح لهم خروفا عملا بسنّة أهل المنطقة في إكرام الضيف وتبجيله.
كانت الشمس قرصا أحمر في الأفق عندما توقّفت السيّارة أمام قبّة المجلس قافلة من الرحلة وقد جثم النعاس ثقيلا على النوّاب بفعل الرحلة والكسكسي بلحم الضأن. دلف النوّاب لمشرب المجلس في انتظار رفع الجلسة المسائية والتوجه للعشاء.
(1) العنوان لرواية لنجيب محفوظ
(2) حاولت استقاء معلومات عن بعثات النواب للخارج من موقع المجلس على الإنترنت لكن بدون جدوى. ليس هناك أيّة معطيات بخصوص هذه البعثات.

lundi 3 décembre 2012

حلم قبل العصر

اتّخذ مكانه متصدّرا الأريكة في الصالون وربّ الدار يردّد "زارتنا البركة يا سيدنا الشيخ" وقد تهلّلت أساريره ولمعت عيناه غبطة وسرورا.
وكان الشيخ يجيب "بارك الله فيك، الله يجازيك خيرا" وأصابعه تجذب حبّات المسبحة في حركة لا إراديّة أضحت عنده كالتنفّس ودقّات القلب.
قال الشيخ :
- كيف حالك يا رجل وحال أهلك
- بخير والحمد لله وما دمت قد زرتنا فإن الله راض عنا، مقامك عظيم يا سيدي الشيخ
- أستغفر الله، كلّنا عباده، كلّنا أبناء آدم
سكت الشيخ مليّا ثم نظر لربّ البيت وقال :
- الحقّ أنّي جئتك في أمر وإن شاء الله يوفّقنا الله في قضائه
- وكيف لا يقضي الله أمرا من أمورك يا سيدي الشيخ، أنت رجل صالح وقريب من الله، وأنا معك أيّا كان هذا الأمر
- بارك الله فيك، الحقيقة أنّي جئت أطلب ابنتك للزواج على سنّة الله ورسوله
ازداد وجه رب البيت انبساطا حتى كادت عيناه تقفز من الفرح :
- الحمد لله، الحمد لله، هذا شرف عظيم ومكرُمة من الله يا سيدي الشيخ، على بركة الله يا سيدي الشيخ
- على رسلك يا رجل، يجب أن تستأذن العروس، هذه سنّة رسولنا الأكرم وما أوصانا به عليه الصلاة والسلام
- وهل لها أن لا توافق؟ إنها مؤدّبة ومحافظة على دينها
- يجب استئذانها يا رجل، اذهب واستأذنها وأخبر أهل بيتك
قام الرجل من حينه ودلف للحجرات الداخليّة ولم تمرّ برهة قليلة حتى انطلقت زغرودة تتّقد فرحة وسرورا.
ثمّ ما لبثت أن جاءت العروس حاملة شراب الورد. وأيّ عروس، فتاة بالكاد قد فارقت ميعة الصبا، لم تر من الدنيا إلا ثمانية عشر ربيعا. ترتدي خمارا مزركشا ولباسا فضفاضا طويلا ستر كل جسدها. فلم يكن يظهر منها إلا الوجه والكفّين. بيد أن لباسها لم يمنع أن يشي بجسم يافع أكرمته الطبيعة أيّما إكرام وعينان واسعتين نجلاوين وحاجبين كهلالين وفم حسن.
رمق الشيخ الفتاة بنظرة أشعلت السّعير في عروقه. تلاطمت في أحشائه أمواج الرغبة وعوى دمه في عروقه كما يعوي الذئب الجائع في منتصف الليل حتى كاد لسانه ينعقد. ازدرد ريقه في صعوبة وانطلق يلهج "ما شاء الله"، "ربي يبارك" محاولا ما استطاع إخفاء لهاثه. وتسارع جذبه لحبّات المسبحة حتى بات كأنّه في سباق محموم مع الثواني. أمّا احمرار وجنتيه فكان دونه لحيته الكثّة.
ونضحت أعماقه امتنانا لكل كتب الفقه وأثر السلف الصالح وكلّ الشيوخ الذين ساهموا في تبوئه هذه المنزلة اليوم. وأسرّته نفسه النجوى...
بالأمس البعيد لم يكن مثله ليظفر بهذه الفتاة الغضّة. كانت حكرا على الفتيان من أترابها، من يتجمّلون ويتأنّقون ويرجّلون شعورهم ويجيدون الكلمات الرقيقة ونسج أحابيل الغزل ومراقصة الفتيات. من كان سيظفر بمثل هذه الفتاة؟ سوى شاب جميل يشغلها بنظراته العاشقة ويهديها الورود والأغاني الرومانسيّة ويُرسِل لها الرسائل العاطفيّة بالجوّال ويُهاتفها المرّات العديدة في الليل ويعدُّ لها المفاجآت والهدايا ويَنظُم لها الأشعار. أمّا هو فلم يَخبِر من هذا شيئا وكان بمعزل عن دنيا العاشقين. لم يكن ليدنو من فتاة لاسيّما إذا كانت جميلة. ولِمَ يدنو منها وهو لن يجد حديثا يتجاذبه معها ولا يعرف من فنّ العشق شيئا؟ أمّا اليوم فهو زمانه وعالمه ودولته. لا كلام معسول يجب أن يحفظه ولا أناقة ولا جسم رياضيي ولا أغان ولا نجوى. ليس بحاجة لأيّ من هذا، فهو سيدي الشيخ. يكفيه أن يتوجّه لوليّ الفتاة التي أخذت لبّه ويطلب يدها على سنة الله ورسوله فيظفر بها خالصة له.
إيه...بالأمس البعيد كان للمجتمع نجومه، رجال الأعمال والجامعيّون والأطبّاء والمحامون والمهندسون والفنّانون والصحفيّون، إلخ. أمّا اليوم، فالشيوخ والوعّاظ هم النجوم بل هم شموس تغمر الدنيا بنورها. تتمنّى العائلات مصاهرتهم وغاية أمل العذارى الظفر بواحد منهم ولو برتبة ضرّة. صحيح أنّه لا يزال في بداية الدرب، فهو لم يرتق لمنزلة الشيخ الفضائي ولكنّ خطواته صارت ثابتة في هذا الاتجاه، إذ حظي منذ برهة بعقد لتقديم برنامج وعظ وإرشاد في إحدى الإذاعات. ومن ثمَّ ستلاحظه القنوات المحليّة ومن بعد الفضائيّات المُكتسحة وعمّا قريب يصبح شيخا فضائيّا. النجاح آت لا ريب وسيوسّع عليه الله من الرزق الحلال الطيّب.
ومن فرط وجده وشعوره بعظمة اللحظة، حدّثه ذهنه أنّ ما هو فيه لا يكون إلا غاية من غايات التاريخ يسّرتها عناية إلهيّة خاصّة. ولمع في ذهنه الفهم كالبرق يجلو بهيم الليل فأدرك محطّات المسيرة المظفّرة التي توّجته زوجا وشيكا لحوريّة من حوريّات الدنيا. وأطلق الشيخ ذاكرته لترجع القهقرى وفي يدها، من وِجده، فانوس. فبدا له أنّ المسيرة كانت قدرا من الله ليُظهر الدين الحقّ على الدّين كلّه. في البدء سخّر الله جنودا من الأنس ليضرب بهم الطاغوت فكانت "الثورة". ثم جاءت الانتخابات فتحا ونصرا من عند الله، مبين. آل الأمر إلى أهل الإسلام وحماته. واجهتهم المشاكل في البداية وأبى البعض الحكم بما أنزل الله. لكنّ مكر الله كان فوق مكرهم واعتُمِد الدستور بالتأسيس على ثوابت الإسلام ومقاصده. وهاهو اليوم بعد عشرين سنة ينعم بجهاد إخوانه المخلصين. الحمد لله على هذه النعمة التي خصّ بها عباده الصالحين. وأيّ نعمة، إنّها ريح من رياح الجنّة. ثم أبى خياله إلاّ أن يجمح فتصوّر ملذّات ليلة الدخلة والخيرات التي سيضعها بين يديه وذلك الجسد الغض الطريّ وذلك الجمال الذي سيدين له. الحمد لله كل الحمد. وتاقت نفسه أن تتزوّد بنظرة أخرى من الوجه الصبوح فأرسل بصره تُجاه عروس المستقبل فارتدّ له خاسئا لهول ما رأى. إنّها زوجته العجوز وقد علت وجهها ابتسامة صفراء. فرك عينيه مستعوذا وقد استشعر ثِقلا في رأسه كأنّه يهبط من كوكب بعيد.
دقّق النظر فرأى نجفة رماديّة مألوفة تتدلّى من السقف فإذا هو متّكئ في حجرة الإستقبال في داره وقد شرد به النعاس. ورجع له الوعي فتذكّر صلاة العصر.
 قام على عجل فدلف إلى الحمّام ليغتسل ويلحق الصلاة في الجامع.