dimanche 7 juillet 2013

قراءة نقدية في مشروع الدستور : الرداءة ليست هويّة

لئن تحسّنت المضامين مقارنة بنسخة أفريل، فإنّ مشروع الدستور لا يزال يشكو من قصور في المنهجيّة والصياغة والمضامين. فهو لا يعكس روح التحرّر التي تملّكت الشعب التونسي ولا يُترجم عن اللحظة التاريخيّة المصيريّة التي أدّت لوضع هذا الدستور الجديد. وهو يخلو من كل تميُّز ولا يرتقي إلى ذلك النوع من الإنتاج الإنساني الذي بإمكانه معانقة الكونيّة.
طالعتني الرداءة من أول التوطئة بوجهها القبيح الكئيب. ثم جثمت، كندم ثقيل، على صدري، عبر الأبواب إلى أن كتمت نَفَسي. ولم أفرغ من قراءة مشروع الدستور حتّى كان قلبي قد انقبض وأملي قد خاب. فقمت وأنا أردّد "لماذا لا نرتقي إلى الإمتياز يوما؟ لماذا يكون قدرنا أن ننتج الرداءة ونقف مشدوهين فاغرين أفواهنا أمام إبداعات العالم الآخر؟ لماذا يَفِرُّ بعض بني وطني من الإبداع فرارهم من الموت؟ لماذا لا يهُزُّهم الشوق للتحليق عاليا؟"
سنستعرض فيما يلي أهمّ ما وجدنا من مكامن الرداءة في مشروع الدستور وبصفة خاصّة في التوطئة والبابين الأول والثاني.
رداءة المنهجية والأسلوب العام
كرّست المنهجيّة والأسلوب العام غيابا، كالفاجعة، للنَفَس التحررّي وازدراءً لقيمة الإنسان والشعب. ويتجلى ذلك واضحا في التوطئة والبابين الأول والثاني.
التوطئة لا تُعلي للشعب التونسي صوتا بل تتحدث عنه بصفة الغائب. أمّا الحاضرون فهم نوّاب الشعب الذين يعتزّون بنضاله ويضعون الدستور باسمه. بينما كان الأحرى أن يكون المتحدّث هو الشعب التونسي باعتماد الصيغة التالية "نحن الشعب التونسي" أو "نحن نوّاب الشعب التونسي نعلن إرادة الشعب في..". لأنّ في ذلك تأكيد على أنّ الدستور هو عقد اجتماعي يخطّه الشعب التونسي لبناء مستقبل مشرق.
ثمّ إنّ أوّل دوافع كتابة الدستور المذكورة في التوطئة هي الاعتزاز بنضال الشعب وهذا رمزيّا غُبنٌ لأهداف الدستور. فالدستور لا يكتب بالأساس للاعتزاز بالنضال وإنّما لإرساء مقوّمات وقيم العيش المشترك من حريّة وعدالة ومساواة.
تبويب الدستور أيضا يعكس غياب الإبداع وروح الخمول الفكري والقناعة بالتقليد. فقد خُصّص الباب الأوّل للمبادئ العامّة بينما خُصّص الباب الثاني للحقوق والحريّات. وكان من الأحرى أن يُفرد الباب الأوّل لإعلان الحقوق والحريّات الإنسانيّة ثم يتناول الباب الثاني المبادئ العامّة وذلك للتأكيد على تعلّق الشعب التونسي بحقوق الإنسان والحريّات العامّة قبل المبادئ الخاصّة بالدولة. ممّا يضيف جرعة قويّة من روح التحرّر تُترجم عن أهداف الثورة.
ومن أهمّ نقائص المنهجيّة العامّة هي طريقة التنصيص على الحقوق والحريّات. فأغلبها ليست طبيعيّة ملازمة للإنسان نابعة من إنسانيّته بل هي مضمونة من طرف الدولة. فحرية المعتقد والضمير تكفلها الدولة (الفصل6). والحقوق والحريّات الفرديّة والعامّة تضمنها الدولة (الفصل 20). وحقوق المرأة لا تنبع من كونها إنسانا وإنّما تضمن حمايتها الدولة التي تدعم مكتسباتها (الفصل 45). وكل الحقوق والحريات تضمنها الدولة أو تحميها أو تدعمها. وكان الأجدى أن تذكر على أساس أنها حقوق طبيعيّة للمواطن أو بالأحرى للإنسان وأنّ الجمهوريّة التونسيّة هي التي تحترمها وتضمنها.
رداءة الصياغة
غَبَنَت الصيّاغة المعتمدة اللغة العربيّة إذ جعلتها لغة قاصرة عن التعبير الفصيح الواضح وعن أداء المعاني السامية والتشريع الجيّد. كما وصم التخبّط والثرثرة العقيمة وغياب التناسق أجزاء من الدستور.
فالتوطئة خمس فقرات كل فقرة منها جملة طويلة يتوه في تلافيفها القارئ ويراجعها المرّات العديدة علّه يجلو القيم والمبادئ التي ينبني عليها الدستور فلا يشفي غليله ولو قرأها ألف مرة.
ونتيجة لهذا الإمعان في الرداءة، تصادفك بعض أجزاء من جمل وقد تاهت وسط هذا الإسهال من الإنشاء العقيمة فأضحت بلا أيّ رابط مع النصّ المحيط بها. ومن مثال ذلك جزء الجملة هذا من الفقرة الثالثة "وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها".
وفي التوطئة إرضاءات للجميع وأخْذ من كل شيء بطرف حتى باتت خليطا تنبعث منه الروائح الكريهة للخنادق الإيديولوجيّة. وكان الأجدر أن يتّم تعداد المبادئ العامّة للعيش المشترك في شكل نقاط واضحة وتجنّب الصيغة الإنشائيّة المملّة والغير واضحة.
في الباب الأول فصلان يُعرِّفان الدولة : الفصل الأوّل المطابق لدستور 1959 والفصل الثاني الذي جاء فيه أنّ الدولة مدنيّة. و كان بالإمكان دمجهما في فصل واحد "تونس دولة مدنيّة، حرّة، إلخ".
فصول عديدة يغلب عليها الطابع الإنشائي والتأكيدات الساذجة. من مثال ذلك، الفصل 8 الذي يؤكّد أنّ الشباب قوّة فاعلة في بناء الوطن. والفصل 37 "الصحّة حقّ لكلّ انسان..." و43 "الحقّ في الماء مضمون" و 44 "الحقّ في بيئة سليمة ومتوازنة مضمون".
من جهة أخرى، نجِد نقاطا محشورة في باب الحقوق والحريّات دون أن تمتّ له بصلة مثل الفصل 32 "توفر الدولة الإمكانيّات اللازمة لتطوير البحث العلمي والتكنولوجي" و37 الخاص بالرعاية الصحيّة و38 الخاص بإجبارية التعليم و42 المتعلق بدعم الأنشطة الرياضية. والأنسب أن يكون مكان هذه الفصول في باب المبادئ العامة.
بعض مشاكل المضامين
رغم التقدم الحاصل في المضامين فهي ما زالت تشكو من نقائص فادحة.
يتأسّس الدستور على تعاليم الإسلام ومقاصده، إلخ. هل معقول أن يكون لنا دستور لا نعرف ما يضبط لنا من حق وما يضع لنا من واجب ونبقى في انتظار فقيه في المستقبل ليدُلّنا ما هي تعاليم الإسلام ومقاصده؟ لقد كان الأفضل أن تُعتمد الصيغة التالية "تعلقا بتعاليم الإسلام" أو "تجذّرا في هويتنا الإسلامية العربية". سيقول البعض أنّ "تعاليم الإسلام ومقاصده" واضحة جليّة وهي تقدميّة متفتحّة راسخة في حقوق الإنسان مثل : الحريّة والكرامة والعدل والمساواة واحترام حقوق المرأة، إلخ. وسأقول ذاك عين الصواب، فلنكتب هذه القيم ويكون الدستور قد تأسّس على "تعاليم الإسلام ومقاصده". أم أنّ هناك تعاليما ومقاصد أخرى لا يفصحون عنها في الوقت الراهن، تعاليم سيستلّها أولي الأمر في اللحظة الحاسمة وفي غفلة من الجميع؟
والدولة في مشروع الدستور كيان ذو ألف قناع. فهي تتطابق تارة مع الجمهورية التونسية شعبا وسلطة (الفصل الأول والثاني). وهي تقتصر طورا على السلطة التنفيذية مثل الفصل 37 "الصحة حق لكل إنسان. وتكفل الدولة الوقاية والرعاية الصحيّة، إلخ". وهي حينا السلطة التشريعيّة مثل الفصل 16 "تحتكر الدولة إنشاء القوات المسلّحة وقوّات الأمن الوطني، إلخ". وحينا آخر السلطات الثلاث التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة مثل الفصل 20 "تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريّات الفرديّة والعامّة، وتهيّئ لهم أسباب العيش الكريم". وهي في مواضع أخرى، كيان مجهول لا تعرف أهو السلطة التنفيذية أم السلطة التشريعية ومثُلُ ذلك في الفصل 29 "تُراعي الدولة في تنفيذ العقوبات السالبة للحريّة مصلحة الأسرة، وتعمل على إعادة تأهيل السجين وإدماجه في المجتمع" أو الفصل 13 "تلتزم الدولة بدعم اللامركزيّة واعتمادها بكامل التراب الوطني في إطار وحدة الدولة". وكان الأسلم أن يُعوَّض مصطلح الدولة ب"الجمهورية التونسية" أو ب"القانون" أو ب"السياسات العمومية" حسب مضمون الفصول.
هناك حقوق مفرغة من كلّ مضمون مثل حقّ الحياة الذي لا يجوز المساس به إلا حسب ما يضبطه القانون. ولمّا كان القانون ترجمة لأغلبيّة حزبيّة فقد نُزِع عن هذا الحقّ كل ضمان فعليّ.
الفصل 6 يقول أنّ الدولة حامية للمقدّسات ضامنة لحياد المساجد عن التوظيف الحزبي. والمشكل أنّ ما هو مقدّس عند زيد هو محلّ اجتهاد وتفكّر عند عمر. والأصحّ أن يُحمى المقدّس في إطار تجريم العنصريّة والحثّ على الكراهيّة كي لا نتجنّى على حريّة الفكر والمعتقد. كما وجب التنصيص على الحياد السياسي للمساجد.
الفصل 7 يعلن أنّ الأسرة هي الخليّة الأساسيّة للمجتمع ويجب على الدولة حمايتها. وفي هذا استبعاد للفرد وعدم اعتراف به إلا إذا كان عضوا في أسرة.
الفصل 30 يُخوِّل للقانون الحدَّ من حريّة التفكير والتعبير لحماية سمعة وأمن وصحة الغير !!!. والأجدر أنّ الحدَّ من هذه الحريّة لا يكون إلّا من باب تجريم ممارسة العنف والتكفير والتحريض على العنصريّة والتعدّي على حقوق الإنسان.
الفصل 141 يمنع أيّ تعديل دستوري أن ينال من الإسلام باعتباره دين الدولة. بينما كان الأسلم أن يُمنع تعديل الفصلين الأول والثاني للدستور.
الفصل 146 في باب الأحكام الانتقاليّة فيه تضارب بتعيين موعدين لدخول الدستور حيز النفاذ. ففي الفقرة الأولى يدخل حيّز النفاذ تدريجيا بصدور النصوص التشريعية الموافقة له. وفي الفقرة الثانية يدخل حيّز النفاذ في اليوم الأول من الشهر الموالي لتاريخ ختمه.
نفس الفصل يرجئ لمدة ثلاث سنوات صلاحية المحكمة الدستوريّة المتعلقّة بالبتّ في دستوريّة القوانين إذا تمّ إثارتها بين المتقاضين. وهذا أمر غريب يفضح إرادة استعمال الدستور لإرساء الاستبداد والظلم وخدمة الغايات الحزبيّة. والأحرى أن تُلغى هذه الأحكام أو في الحدّ الأقصى يقتصر هذا الاستثناء على دستوريّة القوانين الصادرة قبل الثورة.
والخلاصة أنّي قرأت الدستور فتراءى لي الشعب غرّا صغيرا وقد أخذه آباؤه نواب المجلس التأسيسي من يده وحملوه إلى الدولة ليأخذوا عليها ميثاقا غليظا أن لا تعتدي عليه بعد اليوم أو أنّه قطيع تتعهّده الدولة بالكلأ والماء على أن يلتزم هو بالطاعة.
إنّه لمن الغريب والمحزن أن يتمسّك البعض بمواطن الرداءة في الدستور محتجّين بالخصوصيّة والهويّة والإسلام. فلا يسعني إلاّ أن أقول : لقد فهمنا خصوصيّتهم وفهمنا هويّتهم وفهمنا نظرتهم للإسلام.
إنها خصوصية الاستبداد وهوية الرداءة ونظرة الدونية للإسلام.

lundi 20 mai 2013

سامي وسامية وإبليس

من مكر القدر أو لعلّ من حكمته أن يكون اسمه سامي ويكون اسمها سامية. وأن يأتي بهما في نفس الزمن ليكون في قصّتيهما عبرة لأولي الألباب.
فالإثنان سَموْا بهما فوق القانون.
فأمّا سامي فسَموْا به فوق القانون ظلما وعدوانا. حكمت له محكمة التعقيب أكثر من مرّة. وأبى القائمون بالأمر تنفيذ الحكم وإقامة الحقّ.
وأمّا سامية فسَموْا بها فوق القانون زورا وبهتانا. كالت التهم جزافا ورمت الناس بالجرائم بصريح العبارة. وأبى المشرّعون للأمر رفع الحصانة عنها فجعلوا بينها وبين القانون سدّا.
ولذلك رأيت في القدر مكرا وحكمة. فهو ماكر إذ يجعل من المنادين بتحصين الثورة ليلا نهارا هم الذين يجب تحصين الثورة منهم لعدم احترامهم القوانين ولتعدّيهم على حقوق الناس.
وهو حكيم إذ يبيّن لنا فشل الاعتماد على الوازع الديني وحده لإدارة العلاقات بين الناس وسياسة أمورهم. فمن يصرّ على هضم حقّ سامي لا يكون إلّا واحدا من هذان الاثنان :
الشخص الأوّل :
هو شخص استقرّ في قناعته أنّ سامي مذنب يستحقّ العقاب حتّى وإن حكمت محكمة التعقيب بغير ذلك. فهو بعدم الإفراج عن سامي يحسب نفسه أداة للعدل الإلهي ومحقّقا لإرادة الله. وهو يبات راضيا عن نفسه معتقدا أنّه بريء أمام المولى.
وهكذا يمكن لأيّ إنسان في أيّ موقع أن يحسب العدل الإلهي في شيء يراه وحده ويستقرّ في قناعته وحده فيطبّقه ولو كان خارقا للقانون. فيتصرف كلّ حسب فهمه وعلمه وشعوره ويصبح العيش فوضى والتصرفّات اعتباطيّة.
الشخص الثاني :
هو شخص يقرّ في نفسه أنّ العدل في تطبيق قرار محكمة التعقيب وأنّه إذ يمتنع عن تنفيذ قرارها إنّما يأتي عملا شريرا وسيّئا غايته المصلحة. بيد أنّه ولكي ينام ونفسه راضية، يستذكر حسناته ويراجع ميزانه فيذهب في ظنّه أنّ في ميزانه ما يمحو هذه السيّئة وأنّ الكفّة مائلة للخير أكثر منها للشر فيغفر لنفسه هذه الزلّة.
وهكذا وإذا اعتمد كل نفس التفكير يعمّ الظلم والفساد والكلّ حاسب أنّ ميزانه ثقيل وأن في رصيد حسناته ما يغطّي على سيّئاته.
إنّ الوازع الديني يمكن أن يهذّب الأفراد ولكن لا يمكن أن يسوس العلاقات والتعامل بين الناس. فالذنب من الوجهة الدينيّة يمكن أن يمحوه العمل الخير. أمّا اختراق القانون فلا يمحوه عُمْرٌ من العمل الحسن والتصرّف القويم وهو يوجب العقاب مهما كانت حسنات مقترفه.
قبل زمن لامتناهي وأمام العرش رفض إبليس تطبيق الحكم وظنّ أنّه يمتلك الحقيقة أو لعلّه حَسِبَ أنّ في ميزانه ما يشفع له عدم الإذعان للحكم. فخرج منها مذموما مدحورا إلى يوم الدّين.

jeudi 28 février 2013

الفـــــــــــــــــــــــــــاشــــــــــــــلون

أطبق حكم الترويكا على تونس كليل كثيف الطبقات لا نجوم فيه ولا قمر. سدّ حكمهم أفقنا بعد أن كان رحبا فسيحا. ورغم مكابرتهم في الإقرار بالفشل، فهو يأبى إلّا أن يجثم كفاجعة على صدورنا. فشلهم مرسوم في وجوه التونسيين مناصرين للترويكا ومعارضين لها. غاب الأمل والإيمان بالمستقبل. لا أحد مطمئّن، لا أحد متفائل. بل فريق الترويكا نفسه أكبر دليل على الفشل. تلهج ألسنتهم بالتفاؤل وتخونهم وجوههم، ترهقُها قَترة.
كانت الثورة أملا، كانت الثورة حلما بالتحرّر. طوبى لهم، على أيديهم صارت الثورة سوق عكاظ ومعبرا للاستبداد. غُدِر الشعب وحُوِّلت وجهته وانصبّ اهتمامهم على بناء الديكتاتوريّة.
هل أُنبأكم بالثورة المضادّة والردّة، إنّها في استشراء الرداءة والجهل وسطوع نجم أصحاب الحذلقات اللغويّة وانحسار صوت العقل والحكمة وغياب الإبداع وتحقير أصحاب الفكر والكفاءة.
ومن لؤم الثورة المضادّة أنها تلبس لبوس الثورة كالذئب في قصة "ليلى والذئب"، وتتكلم باسمها وتنصّب نفسها حَكَمًا على ثوريّة الناس. فتسير بسيرة الديكتاتوريّة مستبدلة فقط المفردات. تحكم الحكم المطلق ولا تحترم القانون باسم الثورة. وتُقصي الناس باسم الثورة وتمارس العنف باسم الثورة. وتلغي التاريخ باسم الثورة. وتنشر الأوهام بين الناس وتعمي البصائر وتدغدغ أبسط غرائز الشعب باسم الثورة.
ولقد اجتمعت في نظامهم كل مقومّات الثورة المضادّة.
هاجس السلطة واقتسام الغنيمة
لقد كان هاجس السلطة واقتسام غنيمة الدولة صادما عند الترويكا. لم يكتفوا بالمناصب الموجودة بل أحدثوا مناصب أخرى وطفقوا يقتسمونها كغنيمة حرب سقطت بين أيدي جند من البربر. لم يتركوا أحدا من الأقربين إلا ودعوه للوليمة. فوزير للعدالة الإنتقاليّة ووزير للإصلاح الإداري ووزير للحوكمة الرشيدة ووزير للعلاقات مع المجلس التأسيسي وكاتب دولة للخارجية مكلف بآسيا وأمريكا وآخر مكلف بأوروبا وثالث بالعالم العربي وافريقيا. و حتى مورو أغرَوْه بمنصب مستشار قانوني للحكومة برتبة وزير لكنّه رفض.
وعندما قالوا لهم اقتسمتم الغنيمة، كابروا وغالطوا وقالوا جمعتنا البرامج. فهل ترى لهم من البرامج شيئا؟.
وعندما هدّدت كراسيهم مبادرة الجبالي انبروا يتّهمون الثورة المضادّة التي ترتعب من انجازاتهم. نعم إنجازاتهم! التي أهمّها معرض لبيع الأغراض الشخصيّة لعائلة بن علي يُفتتح بالشريط الأحمر وكأنّه جسر أو نفق تحت البحر أو مركز للبحوث. كذلك مشروع لتوريد عربات ثلاثيّة العجلات. ودون التوسع في تعداد الإنجازات وهي كثيرة على هذه الشاكلة فلنترك للمتنبي أن يلخصّها :
عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ                            وَ تأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها                 وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ
إلغاء التاريخ
يطلع علينا الواحد منهم فلا يفوته أن يؤكّد أن كل ما وجدوه هو الخراب وأنّه لم يكن هناك تنمية على الإطلاق وأنّنا عشنا خمسين سنة من التهميش والإقصاء. يقول قوله هذا وهو منحدر من أسرة متواضعة وقد درس في تونس وتخرّج من جامعاتها وهو اليوم يتبوّأ المناصب ويلبس البدل الأنيقة، وما وجدوا إلا الخراب! قامت الثورة وهرب رئيس البلاد ولم ينقطع الماء ولا الكهرباء ولا الاتصالات وما وجدوا إلا الخراب ! مشكلنا في تشغيل أصحاب الشهادات العليا الذين تزخر بهم مدن الداخل والساحل وما وجدوا إلا الخراب ! نخبة كبيرة من المثقفّين والحقوقيّين والشباب الواعي وما وجدوا إلا الخراب ! نموّ ديمغرافي في مستوى نموّ الدول الأوروبية وما وجدوا إلا الخراب! طبيب لكل 812 ساكن وما وجدوا إلا الخراب! 75 سنة معدّل أعمار التونسيّين وما وجدوا إلّا الخراب!
وعمّا قليل سيأتينا من يقول أنّنا كنّا نئِد بناتنا قبل حكمهم وكنّا عراة حفاة نأكل الميتة والدّم.
فما قبلهم الجاهلية والتاريخ يبدأ من حيث بدأ حكمهم.
تخوين المعارضة والتضييق عليها
لقد كان بن علي يتهم معارضيه أنّهم "أعداء نجاح تونس" يستقوُون بالخارج لإلحاق الضرّر ببلادهم.
واليوم هم يتّهمون كل من يعارضهم بعدوّ الثورة وبالمنتمي للثورة المضادّة والردّة.
وكنت في عهد بن علي أقرأ أحيانا جريدة الموقف فأجد جزءا كبيرا منها خُصّص للتشكّي من الاعتداءات على المناضلين. فهذا ضربوه والآخر منعوه من الالتحاق باجتماع وثالث اعتدوا على سيارته. وكنت أشمئّز من لُؤم الديكتاتوريّة التي تسعى لمنع العمل العادي للمعارضة وإعاقتها عن التواصل مع المواطنين بإغراقها في المشاكل التافهة والجزئيّات إلى أن ينفر منها المواطنون من كثرة تبرّمها وشكواها.
ونفس الممارسات تتعرّض لها المعارضة اليوم. فأما نظام بن علي فقد كان يستنكف من تبنّي تلك الممارسات وكان ينسبها، زورا، لمجرمي الحقّ العام. وأمّا النظام الحالي فهو يشجّع من يقوم بها وينعتهم بضمير الثورة وبالشباب الغيور على أهدافها بل ويستقبلهم كبار مسؤولي الدولة.
الرداءة والجهل
وصلت الرداءة والجهل بل الحمق مستويات غير مسبوقة عند فريق السلطة، فقد أكّد عديد الوزراء أنّ نسبة النموّ في 2012 هي %5,5 وذلك باعتماد التحليل التالي : نسبة النموّ في 2011 هي %2- و نسبة النموّ في 2012 هي %3,5 فيجمعون النسبتين ليتحصّلوا على نسبة %5,5.
وهذا عين الجهل. فلنتصوّر أنّ الناتج المحلي في 2010 هو 100 وفي 2011 هو 50 فمعنى هذا أن النّاتج تراجع ب %50 ثم كان ناتج 2012 هو 51 أي نسبة نموّ %2 فحسب وزرائنا حقّقنا تقدمّا ب %52. نعم هذه نظريّة الصعود إلى القاع أو التقدّم إلى الخلف.
كما برز مثال آخر للرّداءة بمناسبة مبادرة الجبالي، إذ أكّد عديد الوزراء ومستشارو الرئيس أنّهم يساندون فكرة التكنقراط للوزارات التقنيّة والفنيّة دون غيرها. نعم، هكذا وكأنّ هناك وزارات غير فنيّة وغير تقنيّة مثل وزارة بيع البخور أو الدردشة؟ والحقيقة، إنّما يكشف هذا أنّ في أذهانهم عندنا وزارات للخطابة والمنظرة والأحاديث الصحفيّة والظهور في البلاتوات.
الإسفاف والتهافت
لقد تدنّى الخطاب لديهم إلى درجة من الإسفاف والتهافت والتضارب تجعل المستمع يشكّ أنّه في يقظة. فتجدهم يقولون الشيء و نقيضه في نفس الحوار وفي بعض الأحيان في نفس الجملة.
فإذا ذكروا أحزاب المعارضة قرّعوها على مواقفها المنتقدة وقالوا تونس في مرحلة انتقال ديمقراطي لا تحتمل معارضة وسلطة وأنّهم دعوا لحكومة توافق منذ الأوّل. فإذا عاب عليهم أحد الإنفراد بالحكم والإمعان في التعيينات الحزبيّة قالوا تونس انتقلت إلى طور الديمقراطيّة وتلك سنن الديمقراطيّة.
بل أغرب من هذا، يقدح مستشارو الرئيس في الحزب الديمقراطي التقدّمي ويتّهمونه بالتواطؤ مع بن علي فإذا سألوهم دليل نضاليّتهم قالوا أنّهم كانوا يكتبون في جريدة الموقف وهي لسان حال الحزب الديمقراطي التقدّمي.
انعدام روح المسؤوليّة وإشاعة فكر المؤامرة
إنهم لا يتصرفون كرجال دولة يقدّرون جسامة مسؤوليّاتهم وواجبهم تجاه الوطن كله. بل لا يطلّ علينا أحد منهم إلا ليشحن الأجواء ويوتّر الأوضاع عوض أن يعمل على الاستقرار والتهدئة. فتراه ينبري يكيل التهم والنعوت لخصومه فهذا من أعداء الثورة وذاك من أزلام التجمع والآخر عميل للمنظمات الصهيونيّة، إلخ.
كلّ من ينتقدهم هو من أعداء الثورة والمعيقين لتحقيق أهدافها. ففي أذهانهم تُحقّق الثورة أهدافها ما بقوا في كراسيهم أمّا الثورة المضادّة فهي كل عمل أو قول يهدّد كراسيهم.
أمّا فشلهم فإذا لم يقم عليه البرهان السّاطع فينكرونه ويقولون أنّ الإعلام يعاديهم. أمّا إذا قام عليه الدّليل فيُرجعونه للمؤامرة.
والحقيقة أن فكرهم سيوسوس لهم في الأخير أنّ العلم وقوانين الاقتصاد والأرقام ما هي إلا مؤامرة عليهم من أزلام النظام السابق والسبسي والمعارضة والموساد.
أتوقّع إذا قرأ هذا المقال بعض منهم سيكون أوّل ما يتبادر لذهنهم "أين كان كاتب المقال قبل 14 جانفي؟" و لكي أشبع فضولهم أجيبهم أنّي كنت في بلدي تونس.
وليد الشريف

jeudi 3 janvier 2013

حوار حول مسودة الدستور نشر بجريدة الصباح في 28/12/2012

نائب رئيس لجنة التوطئة والمبادئ العامة للدستور بالمجلس المدني لـ"الصباح
مسودة دستور التأسيسي" ترجمة لهاجس الشرعية.. والوصاية على الشعب

في إطار المساهمة في الحوار الوطني حول مسودّة الدستور المُعدّة من طرف المجلس الوطني الـتأسيسي، حاورت "الصباح" نائب رئيس لجنة التوطئة والمبادئ العامة والحقوق والحريّات بالمجلس المدني السيد وليد الشريف لتستطلع من جهة جوانب من مقترحات المجلس المدني ومن جهة أخرى قراءته لمسودّة الدستور.

 *ما الذي حملك على الانضمام للمجلس المدني؟

-هو الإيمان بالمستقبل وبقدرتنا نحن شباب هذا الوطن وكل المواطنين على أن نكون من بين الصّانعين لغد أفضل لبلادنا حتى ولو كنّا خارج إطار الأحزاب والمشهد السياسي. فالوطن والمستقبل شأن شخصيّ في ذهن كلّ تونسي بعد أن استرجع مواطنته. أملنا كان المساهمة بالاقتراح في رسم معالم مستقبل أجمل لتونس بعد أن تملّكناها من جديد. بعد أن تحرّرت طاقات الفعل وأصبحنا نسبح في محيط من الممكن.
*لكنّ هناك من يقول أن هذه المبادرة أحدثت للتشويش على المجلس التأسيسي ولخدمة تيارات معينة.
-لقد أخذت هذه الفكرة في حسباني وترصّدت أي فعل في هذا الاتجاه ولكن عملنا كان راقيا ومدنيا ولم يشبه أي توظيف. ولنتحدث بصراحة. بالنسبة لمحسن مرزوق صاحب الفكرة فإننا لم نره إلا في أول جلسة عامة. وبالنسبة لصلاح الدين الجورشي، الرئيس المنتخب للمجلس، فالمعروف أنه مستقل ثم إنّه لم يكن يمرّر آراءه أو يفرض مقترحاته. بل رفضت لجنتنا عديد المقترحات التي تقدم بها كعضو من الأعضاء. وكان دوره الأساسي إدارة النقاش وتنظيمه. وقد خضعت جميع المقترحات للتصويت داخل اللجنة ثم في الجلسة العامّة. وللخروج بالمشروع النهائي مررنا بما لا يقلّ عن 5 مسودات.
*هل تعتبر تجربتكم ناجحة؟
-نعم لأنّ من شارك فيها هم ثلّة من التونسيين منهم طلبة ومحامون وأساتذة جامعيون في اختصاصات عديدة وموظفون في الدولة وأصحاب مهن حرة. هم من المثقفين الذين يساهمون في بناء تونس بالعمل والكدّ بعيدا عن أضواء الإعلام. ثم أنّه لم تُمرّر علينا الاقتراحات تمريرا ولم تكن لنا نسب تمثيليّة ترجّح فكرة على أخرى تحت وطأة أوزان تصويتيّة. كانت وجاهة الفكرة والمقترح هي التي تفرض نفسها ولو دافع عنها الفرد الواحد.
عملنا كان أسطع دليل أنّ هذه الثورة مقدمّة لثورة حضاريّة ثقافيّة وأنها ليست ثورة جوع وفقر بل هي متعدّدة شاملة واعدة. لذلك أقول أن التجربة ناجحة.
*لكن النجاح لا يقف عند طريقة العمل، المهمّ هو ثمرة العمل والإعتراف به؟
-هذا صحيح. بيد أن طريقة العمل هي التي كفلت جودة المنتوج. فاقتراحاتنا كانت ذات قيمة عالية ومستوى رفيع وبرهنت أن في تونس طاقات يمكنها أن تنتج فكرا عالميا متى توفر لها الإطار الملائم. وقد نشرنا كتيبا ضمّ مقترحاتنا بتبرعّ شخصيّ من أحد المواطنين من خارج المجلس. ووزعناه على جميع نوّاب المجلس التأسيسي وعلى عديد الشخصيّات ورجال الإعلام. لكنّ المجلس التأسيسي رفض تخصيص جلسة استماع لنا. كما أنّي أعيب على الإعلام عدم تناول مقترحاتنا بالدرس والتمحيص لأنّي أعتبر ذلك واجبا وطنيّا من شأنه التأسيس لثقافة الحوار الوطني في جوهر المواضيع. ونحن واعون بضرورة التعريف بمقترحاتنا وبسطها على طاولة الدرس. وسنعمل في هذا الاتّجاه بكل تفان وإرادة.
*ما هي النقاط التي تراها هامة وفريدة في مقترحكم للتوطئة؟
-أوّلا أنّ المتحدّث في توطئتنا هو الشعب التونسي فقد استُهلّت التوطئة بعبارة "نحن الشعب التونسي". وفي ذلك رمزيّة على تملّك الشعب التونسي لدستوره وأنّه دستور لكلّ الشعب وليس نتاج توازنات تمثيليّة في المجلس التأسيسي. وتذكّر هذه الصياغة النوّاب أنّهم في خدمة كلّ الشعب وفي خدمة مستقبله فيتسامون عن صفتهم التمثيليّة وتغمر أذهانهم جسامة المسؤوليّة وثقل الأمانة الواجب تأديتها نحو الشعب كلّه ونحو الحاضر والمستقبل.
ثانيا تبرز التوطئة بشكل واضح أهداف وضع الدستور وأُطره وفي مقدّمتها القطع مع الاستبداد والفساد ومواصلة مسيرة الإنعتاق والتحرّر وتوفير مقوّمات العيش المشترك والرّفاهة للأجيال الحاضرة والقادمة في إطار التجذّر في الهويّة الإسلاميّة العربيّة والمحيط المغاربي والمتوسّطي والإفريقي.
ثالثا وهذه نقطة هامة جدا أن التوطئة تخلص إلى إعلان الشعب التونسي للتصوّرات والرؤى والقيم التي سينبني عليها دستوره: الحرية، العدالة، المساواة، علويّة القانون، التجذّر في الهوية والتعلّق بقيم الإسلام، النظام الجمهوري المدني والتوزيع العادل للثروات، إلخ.
*لو قارنا مقترحكم بمسودة الدستور المعدة من طرف المجلس التأسيسي
-لقد صُدمت عندما قرأت مسودّة توطئة المجلس التأسيسي. فهي لا تترجم عن فكر ثوريّ البتّة. فالمتحدّث فيها هم النوّاب"نحن نوّاب الشعب التونسي، أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، المنتخَبين باستحقاقِ ثورة الحريّة والكرامة والعدالة" وهذه العبارة تترجم عن هاجس شرعيّة وعن عشق للذات وعن وصاية على الشعب.
ثم إن أوّل دوافع كتابة الدستور المذكورة هي الإعتزاز بنضالات الشعب وهذا خطأ رمزيّ جسيم. فالدستور لا يُكتب بالأساس للاعتزاز بالنضالات وإنّما لتوفير مقومات المواطنة والعيش المشترك. وربّما يذهب البعض أنّ عبارة "استجابة لأهداف الثورة" المذكورة من بعد تفي بالغرض. ولكنّ هذه الأهداف لم تعدد ولم تنسب هذه الثورة للشعب.
وفي التوطئة مشكلة كبرى هي عبارة "تأسيسا على ثوابت الإسلام ومقاصده المتسمة بالتفتح والاعتدال". وهذه عبارة عامة لا يعرف أوّل ما تشمل ولا آخره. لقد تقاتل عليّ وعائشة وكلاهما مدافع عن ثوابت الإسلام ومقاصده وكذلك فعل علي ومعاوية والشيعة والخوارج. وقتلت القاعدة من قتلت وهي حاسبة أنّها ما بارحت ثوابت الإسلام. هل معقول أن يكون لنا دستور لا نعرف ما يضبط لنا من حقّ وما يضع لنا من واجب ونبقى في انتظار فقيه في المستقبل ليدلّنا ما ثوابت الإسلام ومقاصده؟
ثم أنّ التوطئة وبما أنّها سلبت الكلمة من الشعب التونسي فهي لا تعلن بشكل واضح المبادئ والقيم التي يضعها الشعب لكتابة دستوره. فمن ذلك أنّ الحريّة والعدل والمساواة ذُكرت فقط على أنّها من مقوّمات الحكم وليست كقيم للعيش المشترك وكحقوق طبيعية. ومن ذلك غياب حقّ حريّة التعبير وحقّ الاختلاف والتنوّع دون تمييز.
الخلاصة أنّ النواب حسبوا أنّ الثورية هي نظم قصائد المدح في الثورة عوض الإبداع والعقلانية. فأغفلوا حقّ الشعب في تملّك دستوره بالتحدث محلّه وعدم الإعلان الواضح للقيم التي سينبني عليها الدستور وإغفالهم تماما لقيم أخرى وبحشرهم لعبارات عامة تشبع ظمأهم الإيديولوجي من قبيل"ثوابت الإسلام" و"التدافع السياسي".
*هل لك أن تبرز لنا أهمّ مقترحاتكم للمبادئ العامّة؟
-أوّل نقطة هي التأكيد على مدنيّة الدولة بإضافة المدنيّة لتعريفها"تونس دولة مدنيّة حرّة مستقلّة...".
ثانيا هو التأكيد على احتكار الدولة للعنف المشروع لتطبيق القانون، ممّا من شأنه أن يرفع من جريمة استعمال القوّة ولو لتطبيق القانون، من طرف الأشخاص أو الجماعات، إلى خانة انتهاك مبدأ دستوري.
ثالثا تبيان الأهداف العامّة للسياسات العموميّة وخطوطها العريضة وإطارها. فهي تهدف لتحقيق التنمية المستدامة على جميع الأصعدة: الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة. والتنمية المستدامة مفهوم يشمل الحاضر والمستقبل ويضمّ المحافظة على حقوق الأجيال القادمة في بيئة سليمة وفي ثروات البلاد وفي وراثة استراتيجيّات تنمويّة طويلة المدى واقتصاد متوازن وبلد أرسى دعائم التطوّر. كما بينا آليّات وأطر هذه التنمية، فهي تكون في كنف منظومة لامركزيّة وعلى أساس التوزيع المنصف للثروات والتضامن بين أفراد الشعب.
من أهم المقترحات أيضا الفصل 35 الذي يعدّد أهمّ القيم التي وجب أن نربّي نشأنا عليها لكي نقطع مع أسباب الاستبداد والفساد والتعدّي على حقوق الإنسان ونُرسي دعائم المجتمع المتطوّر الحرّ.
كما اقترحنا اعتماد دليل يضبط الإجراءات الشكليّة لتحرير النصوص القانونية. وذلك لتجنّب رداءة الصياغة التي صبغت عديد النصوص القانونيّة في بلادنا حتّى أصبحت قراءتها عبئا ثقيلا على النفس فضلا عن غياب الإنسجام في أشكال الصياغة مما ينفّر المواطن من القانون ويغرس في ذهنه أنّه مستعص عليه، موجّه لغيره وأنّه مُعدّ لظلمه والتغرير به.
أخيرا منع تعديل كل فصول باب الحقوق والحريّات وتحديد طريقة تأويل فصول الدستور في حالة التباس أو غموض باستبعاد التأويل الذي يحدّ من الحريّات الفرديّة والعامّة.
*وبالنسبة للمبادئ العامّة الواردة في مسودّة الدستور؟
-إنّ من يقرأ الفصول الواردة في هذا الباب سيشعر وكأنّها اتفاقية استسلام من الدولة. فلا يخلو فصل تقريبا من عبارة "تضمن الدولة" وكأنّي بنوّابنا قد سيطر عليهم هاجس ردّ الفعل تجاه الدولة الاستبداديّة التي لا تحترم القانون. فوجب أخذ ميثاق غليظ عليها.
*أستسمحك أن توضّح هذه الفكرة
-فلنأخذ مثالا. جاء في الفصل7 "تضمن الدولة حماية حقوق المرأة ودعم مكتسباتها". والأجدر أن تتّم صياغته على النحو التالي"حقوق المرأة في كذا وكذا مضمونة". وبما أنّ هذه الحقوق ذُكرت في الدستور فضمانها من طرف الدولة نتيجة حتميّة لأنّ الأصل في الأشياء احترام القانون من قبل الدولة والأشخاص ولا يحتاج هذا إلى تذكير. والأمثلة عديدة: الفصل6"تضمن الدولة للمواطنين الحقوق الفرديّة والعامّة..."، الفصل9"تضمن الدولة حقوق الطفل والفئات ذات الاحتياجات الخصوصيّة".
*هل هناك مآخذ أخرى؟
-نعم يقول الفصل4 أن الدولة حامية للمقدّسات. وأنت تعرف أنّ ما هو مقدّس عند زيد هو محلّ اجتهاد وتفكّر عند عمرو. وأنا أرى أنّ الأصحّ أن يُحمى المقدس في إطار تجريم العنصريّة والحثّ على الكراهية كي لا نتجنّى على حرية الفكر والمعتقد.
هناك غياب لتعريف المواطن وهذا خطأ منهجي. كما لم تنصّص المسودّة على مبدأ فصل الأحزاب عن الدولة وعلى احتكار الدولة للسلاح وللعنف المشروع لتطبيق القانون.
وهناك صياغات غريبة مثل الفصل8"على الدولة رعاية كيان الأسرة والحفاظ على تماسكها".
*وبالنسبة لباب الحقوق والحريّات، ما هي نقاط القوّة في مقترحكم؟
-أوّلا أنّ مقترحنا يُقدّم هذا الباب على باب المبادئ العامة. فالحقوق والحريّات تهُمّ الإنسان قبل أن يكون مواطنا وهي أهمّ من المبادئ العامة للدولة. ولعلّ نصّ الفصل الأوّل أفصح من كل تحليل:
- "الفصل الأوّل: الإنسان في ذاته قيمة كونيّة لا تمييز فيها على أيّ أساس كان".
إنّه التركيز على قيمة الإنسان في المطلق وعلى المساواة في هذه القيمة بين كلّ البشر بدون توقّف وتعداد للخاصيّات كاللون والدين والجنس، إلخ. بل هي صياغة عامّة جامعة تُغني عن كل تفصيل تماهيا مع قول الله تعالى في الآية 13 من سورة الحجرات "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
-ثانيا ضمان حقوق المرأة ومكتسباتها مع جعل المكتسبات الواردة في مجلة الأحوال الشخصيّة حدّا أدنى يمكن الرفع منه والبناء على أساسه ولكن لا يمكن النزول دونه.
-ثالثا الإقرار بحريّة الفكر والضمير والمعتقد على أن لا يحُدّ من هذه الحريّة إلاّ قانون حُصِر مجاله في تجريم العنف والتكفير وجميع أشكال التعدّي على حقوق الإنسان.
-رابعا وضع حدود للتفويض الانتخابي فلا يكون هذا التفويض صكّا على بياض من شأنه أن يقوّض حتىّ الأسس التي انبنى عليها. فمهما كانت مسميّاتها، لا يمكن للشرعيّة أن تكون مبررا للمسّ من الحريّات العامة والفرديّة أو للتراجع عن النظام الجمهوري والمبادئ الديمقراطيّة. بل يعاقب كل من ينتهك هذا المبدأ.
*وبالنسبة لباب الحقوق والحريات في مسودة المجلس التأسيسي
-نفس الاختلال في المنهجيّة فأغلب الحقوق والحريّات لم تُذكر كحقوق طبيعيّة ملازمة للإنسان وإنّما كحقوق تضمنها الدولة. ومن ذلك حرمة الجسد والحياة الخاصّة والمسكن وكرامة الذات البشريّة وسريّة المراسلات وحريّة تكوين الأحزاب والجمعيّات والنقابات.
هناك حقوق مُفرغة من كل ضمان حقيقيّ مثل حقّ الحياة الذي يخوّل الفصل 16 المساس به حسب ما يضبطه القانون. ولمّا كان القانون نتاجا لإرادة أغلبيّة سياسيّة فقد نُزع عن هذا الحقّ كل ضمان فعلي.
كما غاب عن نصّ المسودّة حريّة المعتقد وحريّة المبادرة الاقتصاديّة وحالة انتزاع الملكيّة للصالح العام.
من جهة أخرى نجد نقاطا محشورة في باب الحقوق والحريّات دون أن تمتّ له بصلة من قبيل دعم الدولة للعمل الأكاديمي والبحث العلمي وواجب المواطن في أداء الضرائب مع الإشارة لغياب التنصيص على أن الضرائب تُضبط بقانون.
وهناك صياغات غريبة مثل الفصل 31 "الصحّة حق لكل انسان..."
*في الختام، ماذا تقول؟
-مسودّة الدستور سُوّدت بمنهجيّة الوصاية على الشعب فكأنّها معاهدة لانتزاع حقوق من الدولة ولا تُترجم عن عقد اجتماعي يُبرز فيه التونسيّون درجة تحضّرهم والقيم الإنسانيّة التي يتعلّقون بها لتنظيم العيش المشترك بينهم وسياسة أمورهم.
حاوره : مصدق الشريف