lundi 19 novembre 2012

ثوابت السيدة وهموم امرأة

في الحي الميسور
كانت السيّدة تُواجه المرآة في غرفة النوم الفخمة بعد أن دهنت وجهها الناعم بمرهم تليين البشرة المستورد. وضعت آخر اللمسات على وشاحها الحريري المزركش مُخفِيَة بعناية بالغة خصلة شعر متمرّدة وثبّتت البروش الأنيق الذي يشدّ الخمار. كانت على مشارف الخمسين لكنّها تبدو أصغر بسنوات. تتقاضى أجرا متميّزا وزوجها مهندس في شركة عالميّة وكلاهما ينحدر من أسرة ميسورة فكانا يعيشان رغَدًا ولم تواجههما الدنيا بوجهها الكالح.
كانت قد استيقظت فجرا ككلّ يوم لتصلّي وتفطر ثمّ تغتنم سكون الصبح لتنظِم جدول أعمالها وبرنامج اليوم وتدوّن بعض الأفكار. فالسيّدة تحتلّ مكانة مرموقة في حزب إسلامي حظي بفوز ساحق في انتخابات المجلس التأسيسي. غير أنّ حجم الفوز لم يضاهه إلّا حجم التعب والمجهود المضني في معركة الأفكار وكتابة الدستور. فالمعارضة أو الأقليّة كما اتّفق الحزب أن يسمّيها شرسة، فضلا عن رجال الإعلام والفنّ والثقافة الذين يقف أغلبهم موقف المتوجّس من حزبها. لكنّ اليوم ليس ككلّ الأيّام. فهو موعد المعركة الفصل وساعة القول الحسم. نعم، اليوم يُصوِّت المجلس على توطئة الدستور فإمّا أن يحتفظ بالصيغة التي اقترحها حزبها "تأسيسا على ثوابت الإسلام ومقاصده" أو يستبعدها كما يريد العلمانيّون المنبتّون. والحقيقة أنّها صيغة تفتّقت عنها قريحة أحد الإخوان لتعوّض مقترح إدراج الشريعة كمصدر أساسي لسنّ القوانين بعد أن استنفر العلمانيّون كلّ قواهم لرفض هذا المقترح. غريب والله المعارضة التي لَقِيَها هذا الاقتراح من أطراف عديدة. أيّ مكابرة هذه؟ أيرفضون ما أتى به الدين الحقّ؟ أيجادلون في تاريخنا و مقوّمات مجدنا الغابر؟ في أيّ أرض شرّيرة نبتوا؟
أيّ ضيْر في اعتماد الشريعة؟ فهي لم تَحِدْ يوما عنها طوال حياتها ولم يمنعها ذلك من النجاح والتنعّم بالحياة والانطلاق والسفر.
يقولون أنّ في الشريعة تعدّد للزوجات. وأيّ مشكل في هذا؟ ففيها سماح وليس إلزام والرجل إذا أحبّ زوجته لا يلتفت لغيرها. فزوجها مثلا لا يمكن أن يصبُو لغيرها ولو سمحوا له بتزوّج مائة امرأة.
ويقولون أنّ في الشريعة ضيْم للأنثى إذ ترث نصف ما يرث الرجل فيشتدّ عليها بأس الدهر. وهذه حجّة واهية مضحكة. فمن لا يكفيها الثلث لا يكفيها النصف. لقد تقاسمت هي وأشقاؤها الأربعة ميراث والديها. ورغم أنّ نصيبها كان نصف نصيب كل شقيق من أشقائّها فقد نالها الخير الوفير.
ومالها الشريعة؟ لماذا يرفضونها؟ أيحبّون شرب الخمر؟ إنّ ليس فيها إلا الوبال. لقد صدم سكران سيارتها وهي رابضة ذات ليلة وآلاف الجرائم سببها معاقرة الخمر.
كانت مسترسلة في التفكير عندما رنّ هاتفها المحمول فانتبهت أنّ وقت الخروج قد أزف. قامت نشطة تحثّ الخطى فعَبَرَت من باب المطبخ إلى المستودع حيث تربض سيارتها. لفحتها حرارة الجوّ، فالمستودع غير مكيّف فدلفت مسرعة للسيّارة لتشغّل المحرّك والمكيّف. أخرجت السيّارة من المستودع وداست على البنزين لتنطلق مسرعة مبتسمة صوب المجلس التأسيسي.
في الحيّ الشعبي
أفاقت المرأة والظلام لم يسحب بعد آخر خيوطه من السماء. وأوّل ما أحسّت به تعب عضلاتها وألم الظهر اللعين الملازم لها صيفا وشتاءا. كانت في آخر الثلاثينات من عمرها ولكنّ شظف العيش ومُرّ الحياة جعلاها تبدو في الخمسينات.
قضمت كسرة من الرغيف البارد وتركت بقايا كسكسي البارحة لأولادها الأربعة فهم بعد حين سيستفيقون ليذهبوا لمدارسهم. رفعت رأسها للسماء وقالت "يا ربّ ساعدني على همّ الزمان".
من داخل الغرفة أتتها همهمة زوجها وسعاله. هو لن يستيقظ إلا بعد الضحى ليذهب إلى المقهى أو يشتغل إذا تيسّر له ذلك. العيش معه جحيم لا يطاق. لا مورد رزق قارّ له، سكير، عنيف. والثورة لم تمُرّ عليه من دون أثر. ازداد جهله وتواكله. أمّا الانتخابات فكانت الحدث الفارق. فبعدها أصبح أكثر شراسة، إلى أن أضحى يهدّدها بالطلاق والضرّة وبالرمي في الشارع وببيت الطّاعة.
لقد ظنّ الرجل أنّ البلاد ستتغيّر بصعود الحزب الإسلامي للحكم. وهي قد ارتعدت لكلامه، فمن يؤويها إذا طلّقها وطردها ومن سيقف معها؟ لا أهل لها ولا حول ولا قوة. وقد حاولت ابنتها التلميذة في المرحلة الثانوية طمأنتها أنّه من المستحيل الرجوع في حقوق المرأة. بيد أنّ القلق ما زال يفترس نفسها. انتبهت فجأة من وساوسها فعجّلت بارتداء فستانها القديم وخرجت تحثّ الخطى لتصل لمحطة الحافلة قبل مرورها. فلو تأخرت ساعة عن بداية العمل سيخصم يوم عمل من مرتبها الهزيل. في الخارج حرّ لا يطاق وغبار خانق لكنها مضت بعزيمة متّقدة لم تفتّها قطرات العرق التي بدأت تنساب على ظهرها.
اليوم، يوم موعود إذ سيتمّ الإعلان عن نتائج مناظرة رؤساء المصالح وقد وعدها، سي الطاهر، أحد المترشّحين بأن يعطيها عشرين دينارا إذا نجح. نعم، عشرون دينارا بالتمام والكمال. ولقد نذَرَت أن تشتري بها لحما وغلالا ليأكل أطفالها. فكلمة ابنها الصغير تسكن دماغها منذ أسبوع إذ قال لها "أمّي، لقد اشتقت للحم".
غير بعيد عن محطّة الحافلات، تصادفت السيّدة مع المرأة ولم تلاحظ الواحدة منهما الأخرى. ومضت السيّدة تقود سيّارتها مبتسمة مشرقة الوجه تعكس نظراتها روح التحدّي والتصميم وفي ذهنها فكرة واحدة "لا بدّ من الانتصار في معركة ثوابت الإسلام ومقاصده". وانحشرت المرأة في الحافلة المُثقلة بالناس وآلامهم وفي ذهنها فكرة واحدة "اللهم نجِّح سي الطاهر لأشتري لحما لأولادي إن شاء الله".

dimanche 11 novembre 2012

إسمنت دستوري لبناء الإستبداد

خنادق وأسلاك شائكة ومتاريس وحقول ألغام وأكداس من القنابل الإنشطاريّة والعنقوديّة وجنود متواجهون يكاد الحنق يطفر من عيونهم ويعوي في دمائهم التوثّب للقتال لكنّ أفواههم مبتسمة والكلّ رافع راية السلاّم.
تَخالها صورة من أرشيف الحرب العالميّة أو من فلم سرياليّ وما هي كذلك. إنّها ساحة كتابة الدستور وقد أضحت حقلا للألغام، كل يريد زرع لُغمه. هو توازن الرعب بين التيّارات السياسيّة. فهذا يريد التأسيس على "ثوابت الإسلام ومقاصده" وذاك يريد تجريم التطبيع وآخر يؤكّد على الهويّة ورابع على الآداب العامّة، إلخ.
والواقع أنّ الكلّ يريد وضع أعمدة الديكتاتوريّة باستعمال إسمنت القانون. وسأستعرض هنا اثنتين من هذه الأعمدة.
التأسيس على "ثوابت الإسلام ومقاصده"
إنّ عبارة "ثوابت الإسلام ومقاصده" عبارة عامّة إنشائيّة لا يستقيم استعمالها في تحرير نصّ قانوني. فهي لا تبيّن حقّا ولا واجبا. وبها يُبَرّر الشيء ونقيضه.
من سيكون حكما بيننا ليقول لنا ما هي "ثوابت الإسلام ومقاصده"؟
لقد تحارب عليّ وعائشة، رضي الله عنهما، وكلّ يحسب أنّه يدافع عن "ثوابت الإسلام ومقاصده". وتقاتل عليّ ومعاوية والسنّة والشيعة والخوارج والكلّ يظنّ أنّه مدافع عن "ثوابت الإسلام ومقاصده".
ثمّ ألا ترى إلى الذي يستعمل خطاب "ثوابت الإسلام ومقاصده" كيف يستلُّ من جرابه ما يخدمه من "ثوابت الإسلام ومقاصده" حسب الظروف. فتراه إذا ذكر خصومه، التجأ إلى آيات القتال والتكفير مثل آية الحرابة. فإذا أتى الحديث عن العفو والتسامح انبرى يؤكد أسبقيّة الإسلام في هذا المضمار مذكّرا بالرسول عليه الصلاة والسلام، عند فتح مكّة، كيف عفا عن كفّار قريش وكيف أكرمهم الله بنصيب من أموال الزكاة. والأمثلة لا يحصرها العدّ في هذا المجال.
سيقول المدافعون عن إدماج هذه العبارة في الدستور أنّ "ثوابت الإسلام ومقاصده" واضحة جليّة وهي تقدميّة متفتحّة راسخة في حقوق الإنسان مثل : الحريّة والكرامة والعدل والمساواة والإنصاف واحترام حقوق المرأة، إلخ. وسأقول ذاك عين الصواب، فليكتبوا هذه القيم ويكون الدستور قد تأسّس على "ثوابت الإسلام ومقاصده". أم أنّ هناك ثوابت ومقاصد أخرى لا يفصحون عنها في الوقت الراهن، ثوابت أخرى سيستلّها هؤلاء في اللحظة الحاسمة وفي غفلة من الجميع؟
إنّ التمسّك بثوابت الإسلام ومقاصده لا يكون بتوارث قواعد وعادات، القرن تلو القرن، كما تتوارث بعض العائلات، بكل حرص، تحفا فنيّة أو حليّا عبر الأجيال مغتبطة بمظهرها العتيق. لأنّ هذا لا يعدو أن يكون حنينا للماضي وجيشان عاطفة.
أن تكون لحزب أو مثقّف مرجعية إسلامية، فهذا أمر محمود. ولكنّه إذا لم ينطلق من هذه المرجعيّة لإنتاج أفكار وبلورة تصورّات تبرّرها الحجّة ويسندها المنطق فإنّه في الحقيقة يسيء للدّين وهو يحسب أنه ينفعه.
إنّ إعلاء شأن الدّين الإسلامي يكون بإبداع فلسفات وقيم إنسانيّة يمكن مخاطبة العالم كله بها وتساهم في البناء الحضاري الإنساني الكوني. وهذا هو السبيل الأوحد أن يتبوّأ الإسلام المكانة الكونية.
تجريم "التطبيع مع إسرائيل"
وهذه أيضا عبارة عائمة. فأمّا التجريم فهو اعتبار فعل أو قول ما جريمة يُعاقَب من أتاها. وأمّا "التطبيع مع إسرائيل" فذلك من أمر من سيحكمنا لاحقا. قد يعني الفعل وقد يمتدّ إلى القول ولعلّه، وذلك الأرجح، سيشمل حتّى وشوشة النفس للنفس.
قد تجد نفسك مرميّا في السجن إذا اتّفق أن حضرت في بلد أجنبيّ ندوة شارك فيها محاضر إسرائيلي، ثمّ عنَّ لأحد المحامين من فاعلي الخير، وهم كثير، أن يقاضيك بتهمة التطبيع.
وقد تُتَّهم بالتطبيع إذا ذكرت عبارة "إسرائيل" دون أن تَعقُبها بسيل من أقذع الشتائم والنعوت. بل لربّما تُحاكَم إذا لم تَرسُم على وجهك علامات الإشمئزاز والكُره عندما تسمع لفظ "إسرائيل". والمُحقَّق أنّ حجم مجال تهمة التطبيع سيكون بحجم معارضتك للسلطة القائمة.
وإذا سألتهم الآن عن التطبيع، سيقولون أنّه يعني إقامة علاقات دبلوماسيّة أو اقتصاديّة أو ثقافيّة أو أيّ علاقة تعاون مع إسرائيل. فإذا قلت لهم فلنخُطَّ هذا في الدستور بصفة واضحة ولنتجنّب المصطلحات العامّة ولنربطه بوضع حلّ نهائيّ عادل للقضيّة الفلسطينيّة. أتُراهم ماذا يقولون؟ سيتّهمونك بالتطبيع لوهن إرادتك في تجريم التطبيع.
متى سترحلون؟
إنّ هذه العبارات العامّة الفضفاضة وهذه المفاهيم العائمة يُراد إقحامها في الدستور ليصبح كثير من الفن والفكر وممارسة الحريّات الفرديّة جرائم يطالها القانون. هذه مفردات تُشحَذُ لتجعل القانون سيفا مسلولا على رقاب التونسيّين. وإنّ في هذا لَنذير لِما نُساق إليه من عُدوان.
كتابة الدستور حسبناها ورشة مفتوحة لصُنع جسور لمستقبل يعلُو فيه الإنسان وظنّوها هُمْ، ورشة لصُنع السيوف والرماح وغمس الخناجر في السمّ. فمن يا تُراه منّا أخطأ العنوان؟
من أردانا في هذا القرار المكين؟
أهُو الافتقار للحكمة والعقلانيّة؟ أهُو طغيان العاطفة والحميّة؟ أهُو الغياب المُفجِع للفطنة وبُعد النظر؟ أم هو إضمار الظلم والتعسّف وإرادة الاستبداد مع سبق الإصرار والترصّد؟
الحقيقة أنّي لا أنتظر الجواب.
غريب أمر جُلّ أحزابنا ونخبنا : تأسرها وثنيّة الكلمات، تفنى في سراديب المصطلحات والشعارات. مُحزن أمر جُلّ أحزابنا ونخبنا : تسكنها غوغاء العاطفة، تستوطن فيها حميّة الإيديولوجيّات. مُخجل أمر جُلّ أحزابنا ونخبنا : تؤسّس لديكتاتوريّة من أشدّ الديكتاتوريّات وطأة ومصادرة للحريّات، ديكتاتوريّة تستند إلى دستور !!!
أدستور يؤسّس للديكتاتوريّة وقد ذقنا الويلات وشربنا كأس المذلّة للثمالة؟
أدستور يؤسّس للديكتاتوريّة وقد سبقتنا الشعوب للحضارة والمجد؟
أدستور يؤسّس للديكتاتوريّة وقد أشعل الحلم فينا جذوة الحياة بعد طول انطفاء؟
أدستور يؤسّس للديكتاتوريّة وقد حملنا أرواحنا على أكفّنا وراهنّا بحياتنا من أجل الإنعتاق والحريّة؟
أدستور يؤسّس للديكتاتوريّة؟ بل لم تلمسوا روح الشباب الذي حارب الديكتاتوريّة وحاصرها ، بل لم تفهموا شوق الحياة الذي بعثهم من موت، بل لقد أتيتم متأخّرين بأجيال، بل...فليخاطبكم من هو أبلغ منّي :
"متى سترحلون...
احترق المسرح من أركانه
ولم يمت بعد الممثلون" (1)
(1) من قصيدة الممثلون لنزار قباني.