samedi 8 décembre 2012

أفراح القبّة

جمعتهم السيّارة في ذلك الصباح الباكر وقد أنعشهم الجوّ البارد وقضى على بقايا النعاس في أجفانهم. كانوا أربعة من أعضاء المجلس التأسيسي استُحِثّوا في مهمّة عاجلة إلى قرية في الوسط الغربي يعتصم أهاليها منذ قرابة الشهر في الطريق العام قاطعين حركة المرور ومعطّلين المصالح. ورغم انتمائهم لتيّارات سياسيّة متنافرة، فقد ساد الودّ داخل السيارة التي مضت تطوي الأرض طيّا بينما انغمس أربعتهم في الحديث :
- أيّ مشكل هذا؟ لقد أُرغِم الواحد منّا أن ينهض باكرا ويتحمّل مشقّة التنقّل في هذا اليوم البارد
- وأنت المتعوّد على المجيء إلى قبة المجلس عند الظهر، هذا إذا قررت أن تأتي !
- يا رجل أنا آتي إلى القبّة عند الظهر أمّا أنت فلم أرك تحت القبّة طوال الأسبوع الماضي
- لي عذر في ذلك، لقد زارني أصهاري فاضطُررت لملازمتهم في قضاء حوائجهم وفي تجوالهم، أنتم تعرفون أنّ حسن الضيافة أمر مقدّس عند أهل الجنوب
- إيه...خاصّة بعد أن فاحت رائحة الأجور التي نتقاضاها، أصبح حسن الضيافة أقدس المقدسّات عند أهل الجنوب أو سواهم
- لقد ضخّم الإعلام المسألة وكأنّنا نتقاضى المليارات بينما لا يَعذر أحد مجهودنا المضني في كتابة الدستور ومراقبة الحكومة وسنّ القوانين
- نعم وكأنّ ليس لنا حياة خاصّة ومتطلبّات عائلية. أنا ورّطت نفسي في دينٍ لشراء منزل وكنت معوّلا على منحة التقاعد لكنّ الأمر سار على غير ذلك
- لا تغتمّ، ستسدّد الدين بمرتبّك، فأمامنا وقت طويل لإتمام مهمّتنا، كلّ كلمة في الدستور ستثير عشرات من اقتراحات التعديل والتدخلّات فضلا عن الجلسات المخصصّة للاستماع للحكومة وللمصادقة على القوانين ومناقشة الأحداث والوضع وأيام العطل والرّاحات، إلخ
- الحقيقة أنّي في بعض الأحيان تمنيّت لو كنت جئت إلى القبّة بعد هجرة خارج البلاد، لكنت أقبض ضعف مرتّبي وبالعملة الصعبة
- لقد أصبت في هذه فلا يخفاك أنّ للمهاجرين على الأنصار درجة...
انقطع الحديث عندما لاحظ النواب توقّف السائق بإشارة من دوريّة للحرس المروري. همَّ عون الدوريّة بتحرير محضر مخالفة لتجاوز السرعة القانونيّة لمّا استظهر أحدهم ببطاقة نائب بالمجلس التأسيسي فواصلوا الرحلة دون مخالفة وبعد تحية احترام من الأعوان.
- ما هي مطالب الأهالي في هذه القرية
- لقد تعدّدت المطالب والكلّ يريد كلّ شيء في الحال
- إنّهم يطالبون ببناء مستوصف، الحقيقة أنّ هذا مطلب يسير يجب تحقيقه
- يا رجل الضغط كبير على ميزانيّة الدولة، إنّها لا تحتمل مصاريف إضافيّة
- إنّه لا يتكلّف الشيء الكثير ويجب الضغط على الحكومة لبنائه وحلّ هذا المشكل
- وحتّى إن بنته الحكومة فلن تجد طبيبا أو ممرضا يقبل أن يعمل في تلك المنطقة النائية
- يا رجل لكل مقام مقال فلنبدأ بحلّ المشكل وسدّ هذا الباب
وفجأة رنّ جوال أحدهم فتوقّف الحوار. فهِم بقية الأعضاء أن المكالمة من مكتب المجلس. أشرق وجه النائب المتقبل للمكالمة وهو يقول :
- شكرا شكرا هذا شرف عظيم...بلغ الرئيس تحياتي وعرفاني...إلى اللقاء
نظر النّائب إلى رفاقه وعيناه تلمع حبورا فألفى وجوهم متطلّعة له وقد ارتسم عليها السؤال فقال :
- لقد كلّفني مكتب المجلس بمهمّة في الخارج. سأمثّل تونس في ملتقى برلماني لجنوب المحيط الهادي حول "التجربة النيوزيلاندية في تأنيث المناصب العليا في الدولة"
- وأين توجد نيوزيلاندا
- إنّها في المحيط الهادي وتفصلها عن تونس 18000 كم
- ولكنّ هذا سيكلّف ميزانيّة المجلس ثروة فتذكرة الطائرة لن تقلّ عن 7000 دينار
- فضلا عن التنقلاّت الداخلية وتكاليف الإقامة ومصروف الجيب
- وإن يكن، هذا من صميم أهداف الثورة، أنترك مكان تونس شاغرا في هذا المحفل الدولي؟ يجب التعريف بانجازاتنا العظيمة والسعي لإعلاء قيمتنا بين البلدان
- أنت قد شاركت في بعثتين للخارج إلى حدّ اللحظة وهذه البعثة الثالثة التي ستنعم بها
- اللهم لا حسد
- لست أحسدك ولكنّ العدل واجب، كلّنا نوّاب الشعب وكلّنا عنوان للثورة
- أنتم تعرفون أنّ بعض الزملاء نازعوني أحقيّة الخروج في البعثة الفارطة لكنّ القرعة فصلت بيننا وكنت سأتقبّل نتائجها لو جاءت على غير ما أشتهي
وتشعّب حديث البعثات فاستذكر الكلّ أحلى الذكريات والطرائف وما جلبوه من هدايا وما زاروه من أماكن.
وفي منتصف الطريق، تناولوا القهوة والمرطّبات في استراحة على الطريق السيّارة. وهاتف النّائب الموعود بالبعثة زوجته ليزفّ لها الخبر ويوصيها بإعداد حقيبته وقائمة بالمشتريات التي تودّها.
بعد ساعتين وصلوا لمدخل القرية المعتصم أهلها. أحجار وإطارات محروقة وشعارات كُتبت على ألواح، بضع نساء وبضع رجال وشباب وأطفال، عدد من الشاحنات مركونة على حافة الطريق وقد منعوها مواصلة السير والسواق يتفاوضون. نزل النوّاب والتحموا بالأهالي فغمرهم هؤلاء بالمطالب وقد تملّكهم التشنّج والعصبيّة :
 "لم تحصل أيّة ثورة، لم يتغيّر شيء، نحن نريد مستوصفا، يموت الواحد منّا بلدغة عقرب وقد تلد الحامل في طريقها إلى المستشفى الجهوي"، " نحن نريد زيارة رئيس الحكومة ورئيس الدولة..."
بعد لأي، تمكّن النوّاب من أخذ الكلمة فتداولوا عليها :
- إخواني، نحن نحيّيكم يا من صنعتم الثورة العظيمة ورفعتم رأس تونس عاليا. هنيئا لكم الحريّة والكرامة. ستتحقّق كلّ مطالبكم ولكنّ الصبر مفتاح الفرج. إخواني، إنّ الحكومة تولي منطقتكم الاهتمام الخاصّ والأولويّة المطلقة وقد رصدت لها اعتمادات ضخمة في ميزانية الدولة تبلغ كذا مليون دينار. أمّا المستوصف فقد تأكّدت من وزير الصحّة شخصيّا أنّه سيُشرع في بنائه الأسبوع المقبل.....
وقال كلّ ما يشبه هذا الكلام مع فوارق طفيفة في وصف عظمة الثورة والشعب ومساهمة أهالي المنطقة في الثورة.
في الأثناء، التحق على عين المكان معتمد الجهة والوالي بعد أن هدأت الخواطر. وحين أزف موعد الغداء، أخبر الوالي الوفد النيابي أنّ أحد كبار الفلاحين يستدعيهم للفطور وقد ذبح لهم خروفا عملا بسنّة أهل المنطقة في إكرام الضيف وتبجيله.
كانت الشمس قرصا أحمر في الأفق عندما توقّفت السيّارة أمام قبّة المجلس قافلة من الرحلة وقد جثم النعاس ثقيلا على النوّاب بفعل الرحلة والكسكسي بلحم الضأن. دلف النوّاب لمشرب المجلس في انتظار رفع الجلسة المسائية والتوجه للعشاء.
(1) العنوان لرواية لنجيب محفوظ
(2) حاولت استقاء معلومات عن بعثات النواب للخارج من موقع المجلس على الإنترنت لكن بدون جدوى. ليس هناك أيّة معطيات بخصوص هذه البعثات.

lundi 3 décembre 2012

حلم قبل العصر

اتّخذ مكانه متصدّرا الأريكة في الصالون وربّ الدار يردّد "زارتنا البركة يا سيدنا الشيخ" وقد تهلّلت أساريره ولمعت عيناه غبطة وسرورا.
وكان الشيخ يجيب "بارك الله فيك، الله يجازيك خيرا" وأصابعه تجذب حبّات المسبحة في حركة لا إراديّة أضحت عنده كالتنفّس ودقّات القلب.
قال الشيخ :
- كيف حالك يا رجل وحال أهلك
- بخير والحمد لله وما دمت قد زرتنا فإن الله راض عنا، مقامك عظيم يا سيدي الشيخ
- أستغفر الله، كلّنا عباده، كلّنا أبناء آدم
سكت الشيخ مليّا ثم نظر لربّ البيت وقال :
- الحقّ أنّي جئتك في أمر وإن شاء الله يوفّقنا الله في قضائه
- وكيف لا يقضي الله أمرا من أمورك يا سيدي الشيخ، أنت رجل صالح وقريب من الله، وأنا معك أيّا كان هذا الأمر
- بارك الله فيك، الحقيقة أنّي جئت أطلب ابنتك للزواج على سنّة الله ورسوله
ازداد وجه رب البيت انبساطا حتى كادت عيناه تقفز من الفرح :
- الحمد لله، الحمد لله، هذا شرف عظيم ومكرُمة من الله يا سيدي الشيخ، على بركة الله يا سيدي الشيخ
- على رسلك يا رجل، يجب أن تستأذن العروس، هذه سنّة رسولنا الأكرم وما أوصانا به عليه الصلاة والسلام
- وهل لها أن لا توافق؟ إنها مؤدّبة ومحافظة على دينها
- يجب استئذانها يا رجل، اذهب واستأذنها وأخبر أهل بيتك
قام الرجل من حينه ودلف للحجرات الداخليّة ولم تمرّ برهة قليلة حتى انطلقت زغرودة تتّقد فرحة وسرورا.
ثمّ ما لبثت أن جاءت العروس حاملة شراب الورد. وأيّ عروس، فتاة بالكاد قد فارقت ميعة الصبا، لم تر من الدنيا إلا ثمانية عشر ربيعا. ترتدي خمارا مزركشا ولباسا فضفاضا طويلا ستر كل جسدها. فلم يكن يظهر منها إلا الوجه والكفّين. بيد أن لباسها لم يمنع أن يشي بجسم يافع أكرمته الطبيعة أيّما إكرام وعينان واسعتين نجلاوين وحاجبين كهلالين وفم حسن.
رمق الشيخ الفتاة بنظرة أشعلت السّعير في عروقه. تلاطمت في أحشائه أمواج الرغبة وعوى دمه في عروقه كما يعوي الذئب الجائع في منتصف الليل حتى كاد لسانه ينعقد. ازدرد ريقه في صعوبة وانطلق يلهج "ما شاء الله"، "ربي يبارك" محاولا ما استطاع إخفاء لهاثه. وتسارع جذبه لحبّات المسبحة حتى بات كأنّه في سباق محموم مع الثواني. أمّا احمرار وجنتيه فكان دونه لحيته الكثّة.
ونضحت أعماقه امتنانا لكل كتب الفقه وأثر السلف الصالح وكلّ الشيوخ الذين ساهموا في تبوئه هذه المنزلة اليوم. وأسرّته نفسه النجوى...
بالأمس البعيد لم يكن مثله ليظفر بهذه الفتاة الغضّة. كانت حكرا على الفتيان من أترابها، من يتجمّلون ويتأنّقون ويرجّلون شعورهم ويجيدون الكلمات الرقيقة ونسج أحابيل الغزل ومراقصة الفتيات. من كان سيظفر بمثل هذه الفتاة؟ سوى شاب جميل يشغلها بنظراته العاشقة ويهديها الورود والأغاني الرومانسيّة ويُرسِل لها الرسائل العاطفيّة بالجوّال ويُهاتفها المرّات العديدة في الليل ويعدُّ لها المفاجآت والهدايا ويَنظُم لها الأشعار. أمّا هو فلم يَخبِر من هذا شيئا وكان بمعزل عن دنيا العاشقين. لم يكن ليدنو من فتاة لاسيّما إذا كانت جميلة. ولِمَ يدنو منها وهو لن يجد حديثا يتجاذبه معها ولا يعرف من فنّ العشق شيئا؟ أمّا اليوم فهو زمانه وعالمه ودولته. لا كلام معسول يجب أن يحفظه ولا أناقة ولا جسم رياضيي ولا أغان ولا نجوى. ليس بحاجة لأيّ من هذا، فهو سيدي الشيخ. يكفيه أن يتوجّه لوليّ الفتاة التي أخذت لبّه ويطلب يدها على سنة الله ورسوله فيظفر بها خالصة له.
إيه...بالأمس البعيد كان للمجتمع نجومه، رجال الأعمال والجامعيّون والأطبّاء والمحامون والمهندسون والفنّانون والصحفيّون، إلخ. أمّا اليوم، فالشيوخ والوعّاظ هم النجوم بل هم شموس تغمر الدنيا بنورها. تتمنّى العائلات مصاهرتهم وغاية أمل العذارى الظفر بواحد منهم ولو برتبة ضرّة. صحيح أنّه لا يزال في بداية الدرب، فهو لم يرتق لمنزلة الشيخ الفضائي ولكنّ خطواته صارت ثابتة في هذا الاتجاه، إذ حظي منذ برهة بعقد لتقديم برنامج وعظ وإرشاد في إحدى الإذاعات. ومن ثمَّ ستلاحظه القنوات المحليّة ومن بعد الفضائيّات المُكتسحة وعمّا قريب يصبح شيخا فضائيّا. النجاح آت لا ريب وسيوسّع عليه الله من الرزق الحلال الطيّب.
ومن فرط وجده وشعوره بعظمة اللحظة، حدّثه ذهنه أنّ ما هو فيه لا يكون إلا غاية من غايات التاريخ يسّرتها عناية إلهيّة خاصّة. ولمع في ذهنه الفهم كالبرق يجلو بهيم الليل فأدرك محطّات المسيرة المظفّرة التي توّجته زوجا وشيكا لحوريّة من حوريّات الدنيا. وأطلق الشيخ ذاكرته لترجع القهقرى وفي يدها، من وِجده، فانوس. فبدا له أنّ المسيرة كانت قدرا من الله ليُظهر الدين الحقّ على الدّين كلّه. في البدء سخّر الله جنودا من الأنس ليضرب بهم الطاغوت فكانت "الثورة". ثم جاءت الانتخابات فتحا ونصرا من عند الله، مبين. آل الأمر إلى أهل الإسلام وحماته. واجهتهم المشاكل في البداية وأبى البعض الحكم بما أنزل الله. لكنّ مكر الله كان فوق مكرهم واعتُمِد الدستور بالتأسيس على ثوابت الإسلام ومقاصده. وهاهو اليوم بعد عشرين سنة ينعم بجهاد إخوانه المخلصين. الحمد لله على هذه النعمة التي خصّ بها عباده الصالحين. وأيّ نعمة، إنّها ريح من رياح الجنّة. ثم أبى خياله إلاّ أن يجمح فتصوّر ملذّات ليلة الدخلة والخيرات التي سيضعها بين يديه وذلك الجسد الغض الطريّ وذلك الجمال الذي سيدين له. الحمد لله كل الحمد. وتاقت نفسه أن تتزوّد بنظرة أخرى من الوجه الصبوح فأرسل بصره تُجاه عروس المستقبل فارتدّ له خاسئا لهول ما رأى. إنّها زوجته العجوز وقد علت وجهها ابتسامة صفراء. فرك عينيه مستعوذا وقد استشعر ثِقلا في رأسه كأنّه يهبط من كوكب بعيد.
دقّق النظر فرأى نجفة رماديّة مألوفة تتدلّى من السقف فإذا هو متّكئ في حجرة الإستقبال في داره وقد شرد به النعاس. ورجع له الوعي فتذكّر صلاة العصر.
 قام على عجل فدلف إلى الحمّام ليغتسل ويلحق الصلاة في الجامع.

lundi 19 novembre 2012

ثوابت السيدة وهموم امرأة

في الحي الميسور
كانت السيّدة تُواجه المرآة في غرفة النوم الفخمة بعد أن دهنت وجهها الناعم بمرهم تليين البشرة المستورد. وضعت آخر اللمسات على وشاحها الحريري المزركش مُخفِيَة بعناية بالغة خصلة شعر متمرّدة وثبّتت البروش الأنيق الذي يشدّ الخمار. كانت على مشارف الخمسين لكنّها تبدو أصغر بسنوات. تتقاضى أجرا متميّزا وزوجها مهندس في شركة عالميّة وكلاهما ينحدر من أسرة ميسورة فكانا يعيشان رغَدًا ولم تواجههما الدنيا بوجهها الكالح.
كانت قد استيقظت فجرا ككلّ يوم لتصلّي وتفطر ثمّ تغتنم سكون الصبح لتنظِم جدول أعمالها وبرنامج اليوم وتدوّن بعض الأفكار. فالسيّدة تحتلّ مكانة مرموقة في حزب إسلامي حظي بفوز ساحق في انتخابات المجلس التأسيسي. غير أنّ حجم الفوز لم يضاهه إلّا حجم التعب والمجهود المضني في معركة الأفكار وكتابة الدستور. فالمعارضة أو الأقليّة كما اتّفق الحزب أن يسمّيها شرسة، فضلا عن رجال الإعلام والفنّ والثقافة الذين يقف أغلبهم موقف المتوجّس من حزبها. لكنّ اليوم ليس ككلّ الأيّام. فهو موعد المعركة الفصل وساعة القول الحسم. نعم، اليوم يُصوِّت المجلس على توطئة الدستور فإمّا أن يحتفظ بالصيغة التي اقترحها حزبها "تأسيسا على ثوابت الإسلام ومقاصده" أو يستبعدها كما يريد العلمانيّون المنبتّون. والحقيقة أنّها صيغة تفتّقت عنها قريحة أحد الإخوان لتعوّض مقترح إدراج الشريعة كمصدر أساسي لسنّ القوانين بعد أن استنفر العلمانيّون كلّ قواهم لرفض هذا المقترح. غريب والله المعارضة التي لَقِيَها هذا الاقتراح من أطراف عديدة. أيّ مكابرة هذه؟ أيرفضون ما أتى به الدين الحقّ؟ أيجادلون في تاريخنا و مقوّمات مجدنا الغابر؟ في أيّ أرض شرّيرة نبتوا؟
أيّ ضيْر في اعتماد الشريعة؟ فهي لم تَحِدْ يوما عنها طوال حياتها ولم يمنعها ذلك من النجاح والتنعّم بالحياة والانطلاق والسفر.
يقولون أنّ في الشريعة تعدّد للزوجات. وأيّ مشكل في هذا؟ ففيها سماح وليس إلزام والرجل إذا أحبّ زوجته لا يلتفت لغيرها. فزوجها مثلا لا يمكن أن يصبُو لغيرها ولو سمحوا له بتزوّج مائة امرأة.
ويقولون أنّ في الشريعة ضيْم للأنثى إذ ترث نصف ما يرث الرجل فيشتدّ عليها بأس الدهر. وهذه حجّة واهية مضحكة. فمن لا يكفيها الثلث لا يكفيها النصف. لقد تقاسمت هي وأشقاؤها الأربعة ميراث والديها. ورغم أنّ نصيبها كان نصف نصيب كل شقيق من أشقائّها فقد نالها الخير الوفير.
ومالها الشريعة؟ لماذا يرفضونها؟ أيحبّون شرب الخمر؟ إنّ ليس فيها إلا الوبال. لقد صدم سكران سيارتها وهي رابضة ذات ليلة وآلاف الجرائم سببها معاقرة الخمر.
كانت مسترسلة في التفكير عندما رنّ هاتفها المحمول فانتبهت أنّ وقت الخروج قد أزف. قامت نشطة تحثّ الخطى فعَبَرَت من باب المطبخ إلى المستودع حيث تربض سيارتها. لفحتها حرارة الجوّ، فالمستودع غير مكيّف فدلفت مسرعة للسيّارة لتشغّل المحرّك والمكيّف. أخرجت السيّارة من المستودع وداست على البنزين لتنطلق مسرعة مبتسمة صوب المجلس التأسيسي.
في الحيّ الشعبي
أفاقت المرأة والظلام لم يسحب بعد آخر خيوطه من السماء. وأوّل ما أحسّت به تعب عضلاتها وألم الظهر اللعين الملازم لها صيفا وشتاءا. كانت في آخر الثلاثينات من عمرها ولكنّ شظف العيش ومُرّ الحياة جعلاها تبدو في الخمسينات.
قضمت كسرة من الرغيف البارد وتركت بقايا كسكسي البارحة لأولادها الأربعة فهم بعد حين سيستفيقون ليذهبوا لمدارسهم. رفعت رأسها للسماء وقالت "يا ربّ ساعدني على همّ الزمان".
من داخل الغرفة أتتها همهمة زوجها وسعاله. هو لن يستيقظ إلا بعد الضحى ليذهب إلى المقهى أو يشتغل إذا تيسّر له ذلك. العيش معه جحيم لا يطاق. لا مورد رزق قارّ له، سكير، عنيف. والثورة لم تمُرّ عليه من دون أثر. ازداد جهله وتواكله. أمّا الانتخابات فكانت الحدث الفارق. فبعدها أصبح أكثر شراسة، إلى أن أضحى يهدّدها بالطلاق والضرّة وبالرمي في الشارع وببيت الطّاعة.
لقد ظنّ الرجل أنّ البلاد ستتغيّر بصعود الحزب الإسلامي للحكم. وهي قد ارتعدت لكلامه، فمن يؤويها إذا طلّقها وطردها ومن سيقف معها؟ لا أهل لها ولا حول ولا قوة. وقد حاولت ابنتها التلميذة في المرحلة الثانوية طمأنتها أنّه من المستحيل الرجوع في حقوق المرأة. بيد أنّ القلق ما زال يفترس نفسها. انتبهت فجأة من وساوسها فعجّلت بارتداء فستانها القديم وخرجت تحثّ الخطى لتصل لمحطة الحافلة قبل مرورها. فلو تأخرت ساعة عن بداية العمل سيخصم يوم عمل من مرتبها الهزيل. في الخارج حرّ لا يطاق وغبار خانق لكنها مضت بعزيمة متّقدة لم تفتّها قطرات العرق التي بدأت تنساب على ظهرها.
اليوم، يوم موعود إذ سيتمّ الإعلان عن نتائج مناظرة رؤساء المصالح وقد وعدها، سي الطاهر، أحد المترشّحين بأن يعطيها عشرين دينارا إذا نجح. نعم، عشرون دينارا بالتمام والكمال. ولقد نذَرَت أن تشتري بها لحما وغلالا ليأكل أطفالها. فكلمة ابنها الصغير تسكن دماغها منذ أسبوع إذ قال لها "أمّي، لقد اشتقت للحم".
غير بعيد عن محطّة الحافلات، تصادفت السيّدة مع المرأة ولم تلاحظ الواحدة منهما الأخرى. ومضت السيّدة تقود سيّارتها مبتسمة مشرقة الوجه تعكس نظراتها روح التحدّي والتصميم وفي ذهنها فكرة واحدة "لا بدّ من الانتصار في معركة ثوابت الإسلام ومقاصده". وانحشرت المرأة في الحافلة المُثقلة بالناس وآلامهم وفي ذهنها فكرة واحدة "اللهم نجِّح سي الطاهر لأشتري لحما لأولادي إن شاء الله".

dimanche 11 novembre 2012

إسمنت دستوري لبناء الإستبداد

خنادق وأسلاك شائكة ومتاريس وحقول ألغام وأكداس من القنابل الإنشطاريّة والعنقوديّة وجنود متواجهون يكاد الحنق يطفر من عيونهم ويعوي في دمائهم التوثّب للقتال لكنّ أفواههم مبتسمة والكلّ رافع راية السلاّم.
تَخالها صورة من أرشيف الحرب العالميّة أو من فلم سرياليّ وما هي كذلك. إنّها ساحة كتابة الدستور وقد أضحت حقلا للألغام، كل يريد زرع لُغمه. هو توازن الرعب بين التيّارات السياسيّة. فهذا يريد التأسيس على "ثوابت الإسلام ومقاصده" وذاك يريد تجريم التطبيع وآخر يؤكّد على الهويّة ورابع على الآداب العامّة، إلخ.
والواقع أنّ الكلّ يريد وضع أعمدة الديكتاتوريّة باستعمال إسمنت القانون. وسأستعرض هنا اثنتين من هذه الأعمدة.
التأسيس على "ثوابت الإسلام ومقاصده"
إنّ عبارة "ثوابت الإسلام ومقاصده" عبارة عامّة إنشائيّة لا يستقيم استعمالها في تحرير نصّ قانوني. فهي لا تبيّن حقّا ولا واجبا. وبها يُبَرّر الشيء ونقيضه.
من سيكون حكما بيننا ليقول لنا ما هي "ثوابت الإسلام ومقاصده"؟
لقد تحارب عليّ وعائشة، رضي الله عنهما، وكلّ يحسب أنّه يدافع عن "ثوابت الإسلام ومقاصده". وتقاتل عليّ ومعاوية والسنّة والشيعة والخوارج والكلّ يظنّ أنّه مدافع عن "ثوابت الإسلام ومقاصده".
ثمّ ألا ترى إلى الذي يستعمل خطاب "ثوابت الإسلام ومقاصده" كيف يستلُّ من جرابه ما يخدمه من "ثوابت الإسلام ومقاصده" حسب الظروف. فتراه إذا ذكر خصومه، التجأ إلى آيات القتال والتكفير مثل آية الحرابة. فإذا أتى الحديث عن العفو والتسامح انبرى يؤكد أسبقيّة الإسلام في هذا المضمار مذكّرا بالرسول عليه الصلاة والسلام، عند فتح مكّة، كيف عفا عن كفّار قريش وكيف أكرمهم الله بنصيب من أموال الزكاة. والأمثلة لا يحصرها العدّ في هذا المجال.
سيقول المدافعون عن إدماج هذه العبارة في الدستور أنّ "ثوابت الإسلام ومقاصده" واضحة جليّة وهي تقدميّة متفتحّة راسخة في حقوق الإنسان مثل : الحريّة والكرامة والعدل والمساواة والإنصاف واحترام حقوق المرأة، إلخ. وسأقول ذاك عين الصواب، فليكتبوا هذه القيم ويكون الدستور قد تأسّس على "ثوابت الإسلام ومقاصده". أم أنّ هناك ثوابت ومقاصد أخرى لا يفصحون عنها في الوقت الراهن، ثوابت أخرى سيستلّها هؤلاء في اللحظة الحاسمة وفي غفلة من الجميع؟
إنّ التمسّك بثوابت الإسلام ومقاصده لا يكون بتوارث قواعد وعادات، القرن تلو القرن، كما تتوارث بعض العائلات، بكل حرص، تحفا فنيّة أو حليّا عبر الأجيال مغتبطة بمظهرها العتيق. لأنّ هذا لا يعدو أن يكون حنينا للماضي وجيشان عاطفة.
أن تكون لحزب أو مثقّف مرجعية إسلامية، فهذا أمر محمود. ولكنّه إذا لم ينطلق من هذه المرجعيّة لإنتاج أفكار وبلورة تصورّات تبرّرها الحجّة ويسندها المنطق فإنّه في الحقيقة يسيء للدّين وهو يحسب أنه ينفعه.
إنّ إعلاء شأن الدّين الإسلامي يكون بإبداع فلسفات وقيم إنسانيّة يمكن مخاطبة العالم كله بها وتساهم في البناء الحضاري الإنساني الكوني. وهذا هو السبيل الأوحد أن يتبوّأ الإسلام المكانة الكونية.
تجريم "التطبيع مع إسرائيل"
وهذه أيضا عبارة عائمة. فأمّا التجريم فهو اعتبار فعل أو قول ما جريمة يُعاقَب من أتاها. وأمّا "التطبيع مع إسرائيل" فذلك من أمر من سيحكمنا لاحقا. قد يعني الفعل وقد يمتدّ إلى القول ولعلّه، وذلك الأرجح، سيشمل حتّى وشوشة النفس للنفس.
قد تجد نفسك مرميّا في السجن إذا اتّفق أن حضرت في بلد أجنبيّ ندوة شارك فيها محاضر إسرائيلي، ثمّ عنَّ لأحد المحامين من فاعلي الخير، وهم كثير، أن يقاضيك بتهمة التطبيع.
وقد تُتَّهم بالتطبيع إذا ذكرت عبارة "إسرائيل" دون أن تَعقُبها بسيل من أقذع الشتائم والنعوت. بل لربّما تُحاكَم إذا لم تَرسُم على وجهك علامات الإشمئزاز والكُره عندما تسمع لفظ "إسرائيل". والمُحقَّق أنّ حجم مجال تهمة التطبيع سيكون بحجم معارضتك للسلطة القائمة.
وإذا سألتهم الآن عن التطبيع، سيقولون أنّه يعني إقامة علاقات دبلوماسيّة أو اقتصاديّة أو ثقافيّة أو أيّ علاقة تعاون مع إسرائيل. فإذا قلت لهم فلنخُطَّ هذا في الدستور بصفة واضحة ولنتجنّب المصطلحات العامّة ولنربطه بوضع حلّ نهائيّ عادل للقضيّة الفلسطينيّة. أتُراهم ماذا يقولون؟ سيتّهمونك بالتطبيع لوهن إرادتك في تجريم التطبيع.
متى سترحلون؟
إنّ هذه العبارات العامّة الفضفاضة وهذه المفاهيم العائمة يُراد إقحامها في الدستور ليصبح كثير من الفن والفكر وممارسة الحريّات الفرديّة جرائم يطالها القانون. هذه مفردات تُشحَذُ لتجعل القانون سيفا مسلولا على رقاب التونسيّين. وإنّ في هذا لَنذير لِما نُساق إليه من عُدوان.
كتابة الدستور حسبناها ورشة مفتوحة لصُنع جسور لمستقبل يعلُو فيه الإنسان وظنّوها هُمْ، ورشة لصُنع السيوف والرماح وغمس الخناجر في السمّ. فمن يا تُراه منّا أخطأ العنوان؟
من أردانا في هذا القرار المكين؟
أهُو الافتقار للحكمة والعقلانيّة؟ أهُو طغيان العاطفة والحميّة؟ أهُو الغياب المُفجِع للفطنة وبُعد النظر؟ أم هو إضمار الظلم والتعسّف وإرادة الاستبداد مع سبق الإصرار والترصّد؟
الحقيقة أنّي لا أنتظر الجواب.
غريب أمر جُلّ أحزابنا ونخبنا : تأسرها وثنيّة الكلمات، تفنى في سراديب المصطلحات والشعارات. مُحزن أمر جُلّ أحزابنا ونخبنا : تسكنها غوغاء العاطفة، تستوطن فيها حميّة الإيديولوجيّات. مُخجل أمر جُلّ أحزابنا ونخبنا : تؤسّس لديكتاتوريّة من أشدّ الديكتاتوريّات وطأة ومصادرة للحريّات، ديكتاتوريّة تستند إلى دستور !!!
أدستور يؤسّس للديكتاتوريّة وقد ذقنا الويلات وشربنا كأس المذلّة للثمالة؟
أدستور يؤسّس للديكتاتوريّة وقد سبقتنا الشعوب للحضارة والمجد؟
أدستور يؤسّس للديكتاتوريّة وقد أشعل الحلم فينا جذوة الحياة بعد طول انطفاء؟
أدستور يؤسّس للديكتاتوريّة وقد حملنا أرواحنا على أكفّنا وراهنّا بحياتنا من أجل الإنعتاق والحريّة؟
أدستور يؤسّس للديكتاتوريّة؟ بل لم تلمسوا روح الشباب الذي حارب الديكتاتوريّة وحاصرها ، بل لم تفهموا شوق الحياة الذي بعثهم من موت، بل لقد أتيتم متأخّرين بأجيال، بل...فليخاطبكم من هو أبلغ منّي :
"متى سترحلون...
احترق المسرح من أركانه
ولم يمت بعد الممثلون" (1)
(1) من قصيدة الممثلون لنزار قباني.

samedi 27 octobre 2012

يا ويلتكم...أعجزتم أن تواروا سوءة أخيكم؟

لقد أصمّوا آذاننا بضرورة استبعاد التجمعيّين. و تباروا في استنباط المصطلحات : الفساد والإستبداد والتزوير والغش وتسميم الحياة السياسيّة وتجهيل الشعب وتفقيره ونهب ثرواته، إلخ. وقالوا أنّهم حريصون على حماية الثورة وقالوا أنّ همّهم تحصين المسار الثوري وقالوا أنّهم ينفّذون إرادة الشعب الذي عاف التجمعيّين...
وهذا هو عين الدجل. لأنّ مثل هذا الخطاب هدفه إيهام الناس أنّ الحقبة المظلمة التي عانيناها سببها أشخاص فاسدون لا غير، فإذا ذهب هؤلاء الأشخاص استقامت أمورنا وصلحت. وكأنّ الميل إلى الفساد و الإستبداد يختص به التجمعيّون دون غيرهم وأنّنا إذا أقصيناهم فقد فزنا الفوز العظيم.
والحقيقة أنّ هذه الرذائل لا يختصّ بها أناس دون آخرين ولا تنتقل بالعدوى أو بالملامسة وإنّما هي تبرز وتنمو وتستفحل متى توفّرت لها البيئة الملائمة التي تخلو من مؤسّسات قويّة تفرض احترام الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان.
إن منتهى السذاجة أن يحسب الإنسان أنّ رجالات الترويكا أو المعارضة أو أي مناضل أو أي بشر هو خالٍ من نوازع الاستبداد وحبّ الذات وغيرها من الميولات السيّئة. فالشر والخير في كل نفس، ألم يقل الله تعالى في الآية 7 و8 من سورة الشمس "ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها"؟
إنّ بناء مستقبل جديد لا يكون باستبعاد أشخاص بعينهم وكأّن الشرّ منحصر فيهم ملازم لهم لا يسكن في غيرهم. إنّ من يردّد ليلا نهارا أنّه يجب إقصاء التجمعيّين لإرساء نظام ديمقراطي إنّما يريد أن يوهم الناس أنّه يعمل لتحقيق أهداف الثورة وما هو بفاعل. بل هو يرسي دعائم الديكتاتوريّة لأنّه يحوّل الإنتباه عن ضرورة بناء منظومة ديمقراطيّة ومؤسّسات ترسّخ الحريّة وتحميها فلا نرجع للإستبداد أيّا كانت الأشخاص التي تعتلي سدّة الحكم. وهو يرغب أن تستبطن أذهان الناس انتصارات وهميّة فيعتقدون أنّ العمل قد تمّ وأّنّهم اعتلوا منصّة التتويج فيخدّرهم الاطمئنان وتغمرهم الدعة والسكينة.
إنّ إزاحة نظام بن علي هي بمثابة إزاحة سدٍّ كان يمنعنا من خوض معاركنا الحقيقيّة والمصيريّة. إنّه تموقُع على خطّ الانطلاق للثورات الحاسمة والأساسيّة التّي منعتنا الديكتاتوريّة عبر كلّ تاريخنا أن نقوم بها لتسيطر علينا وتبقينا في الذلّ والهوان.
إنّ مشكلنا مشكل منظومة و قيم وذهنيّة. لقد ساد بن على السّنين الطوال وقبله كل المتفردّين بالحكم بسبب رضوخ أغلب الشعب التونسي قبل كل شيء وسكوته على القهر والظلم و الفساد.
لا حماية لنا ولا إصلاح إلّا بتغيير العقليّات والقيم وإرساء منظومة تكرّس الحريّة وحقوق الإنسان والديمقراطيّة وليس باستبعاد بضع أشخاص ومواصلة نفس المسار في نفس الإتّجاه.
إنّ معاقبة من أجرم ضرورة قصوى لإرجاع الحقوق لأصحابها وترسيخ ثقافة المحاسبة والمساءلة وعلويّة القانون وإعطاء العبرة لمن يعتبر. أمّا أن تَسُنّ السلطة التشريعيّة، وهي الممثّلة للتوازنات الحزبيّة، قانونا فيه قائمة بأشخاص يتّم حرمانهم من حقوقهم المدنيّة فذلك تجنٍّ وإقصاء ولاقانون. وهي عمليّة دافعها حساب انتخابي وغايتها ربح سياسيّ، بل هي توجّه بخطى حثيثة نحو الديكتاتوريّة. وهي تثبت بما لا يدع مجالا للشك أنّ النزعة للإستبداد ليست مقصورة على التجمعيّين بل هاهي تتجلّى عند أحزاب الترويكا بكلّ وضوح.
فلنتأمّل جيّدا حصيلة عامين من فترة ما بعد الثورة. إنّ الإنجاز الملموس الثابت الوحيد هو تسليم السلطة من طرف الباجي قائد السبسي و فؤاد المبزّع بعد الإنتخابات. وهو إنجاز عظيم لأنّه مؤسّس في ذهن التونسي لممارسة جديدة وهو علامة فارقة في تاريخ تونس. أمّا فريق الترويكا فلم ينتج إلا الشعارات و تعابير النوايا الطيّبة.
فلنتأمّل جيّدا حصيلة عام من حكم الترويكا.
ألم تر كيف كابروا وتهرّبوا وتملّصوا وسوّفوا ووعدوا وأجّلوا وبرّروا واستعملوا كلّ الأعذار لكي لا يضبطوا خارطة طريق للإنتخابات المقبلة ولا ينشئوا هيئة مستقلّة للإنتخابات؟ ألم تر كيف دُفِعُوا دفعًا لتقديم مبادرتهم وهم كسالى بل لكأنّهم يُساقون إلى شرّ عظيم؟
ثمّ فلنتأمّل جيّدا حصيلة عام من حكم الترويكا.
 لقد صدّعوا رؤوسنا بالعدالة الإنتقاليّة وضرورة المحاسبة والمساءلة وكشف الملفّات وإماطة اللثام على الفساد ولم يفعلوا شيئا. ولو كانت إرادتهم خالصة لسنّوا قوانين العدالة الإنتقاليّة. ألم يصوّتوا على ميزانيّة 2012 في 24 ساعة رغم احتراز المعارضة؟
لكنّهم يتهرّبون من منظومة العدالة الإنتقاليّة ويصدرون دعوات الإقصاء. لقد منحوا "نداء تونس" تأشيرة العمل الحزبي ثم انبروا يهاجمونه ويقذفونه بأقذع الشتائم ويتوعّدونه بالويل والثبور ويحرّضون الناس عليه. أفمنحوه التأشيرة لكي لا يعمل؟ أتعطيني رخصة سياقة ثم تحرّض الناس عليّ عندما أقود سيّارتي في الطريق العام؟
الحقُّ، إنّهم يريدون أن يقترف الناس ما يخافون أن يفعلوه هم بأيديهم لأنّه جرم. الحقُّ، أنّهم يريدون للجرم أن يقع ويريدون أن يضيع الدم بين القبائل.
وهاهو الجرم قد وقع بعد أن طوّعوا للنّاس قتل أخيهم، فبسطوا أيديهم وقتلوه. ولكنّ الغراب في قصّتهم لا يبحث في الأرض ليعلّمهم كيف يوارون سوءة أخيهم، بل يزيّن لهم فعلهم ويحثّهم على بسط أيديهم لقتل إخوة لهم آخرين.

lundi 9 juillet 2012

رأيت فيما يرى النائم

الحقّ أني آويت إلى الفراش متعكّر المزاج ليلتها. فقد تابعت حوارا تلفزيّا جمع ميّة الجريبي بلطفي زيتون. فما راعني خلال الحوار إلا أن توجه لطفي زيتون بهذه العبارة لميّة "ريض شويّة...ريض شويّة" مع إشارة بيده كأنّه راشد ينهر صبيا. امتعضت كثيرا لما اقترفه من قول وحركة وهو يخاطب سيّدة ومناضلة. و لم يزايلني الامتعاض و الشعور بالضّيق طيلة السهرة بل أبى إلّا أن يلازمني حتّى حين آويت إلى الفراش. ولذلك، اليوم أقول أن ما انتابني من كوابيس ليلتها سببه ما شاهدت في التلفاز...
...رأيتني أعدو مذعورا مع العشرات بل مع الآلاف بل الملايين في جميع الإتّجاهات و قد بلغت القلوب الحناجر و صوت الرصاص "الحيّ" قد غطّى على كلّ ما في الكون من أصوات إلا الصراخ و البكاء، يزرع موتا أعمى لا يفرّق بين أنثى وذكر ولا شيخ وصبيّ. لقد كانت المظاهرة سلميّة أمام الداخليّة في يوم الإضراب العام 14 جانفي 2011 و لكنّ الديكتاتور أمر باطلاق النار. كانت النساء أكثر من الرجال. الشيب والأطفال والمناضلون والمثقّفون وكلّ تونس قد خرجت في المظاهرة...
ظللت أعدو وأعدو في الشوارع المتفرعّة عن شارع الحبيب بورقيبة إلى أن انقضضت على سيارتي المركونة بعيدا و قُدتها كمجنون هاربا من ساحة الحرب...
انحشرت في بيتي و أنا في حالة صدمة وذهول وفهمت من سحنات الناس المكفهرّة أن الخبر انتشر في البلاد...
عبر التلفاز جاءنا بيان الرئاسة بأنّ الوضع خطير وأن تونس مستهدفة من أعداء خارجيّين و من عملائهم في الداخل وأنّ البلاد في حالة طوارئ قصوى...
وعبثت بي خواطر الحلم...فإذا بي أمسك جريدة عناوينها حمراء كُتِبت بالخط العريض "محاكمة المتآمرين على تونس : المؤبّد لنجيب الشابي و حمّة الهمّامي وراضية النصراوي..." "10 سنوات لنقابيين (لا أعرف أسماءهم) " "حلّ الحزب الديمقراطي التقدّمي ومصادرة ممتلكاته" "تفكيك عصابة حزب العمال الشيوعي"...وكنت أقرأ و قد أُلقي في فؤادي أن ميّة الجريبي لم تنجو يوم الرصاص. و كان قلبي ثقيلا يعتصره الحزن...
ثم جمح بي الحلم...فإذا أنا أمام شاشة الجزيرة و فيها المنصف المرزوقي يرغي و يزبد قاذفا بن علي بأبشع النعوت ويتّهمه بأنّه ألقاه في غياهب سجن العقل فتروعني قدرة بن علي على تحويل المعنى إلى مادّة. ثم يذكر عدد الضحايا ويجهش بالبكاء فتسيل دموعي لبكائه و يهزّني الحماس لألتحق به في باريس...
ثم أجدني في قاعة استقبال في مطار فخم و أنا جالس مع راشد الغنوشي وهو يرحّب بي في لندن وقد أُلقي في إدراكي أنّي أعرفه شخصيا وقلت له :
- ألا ترى يا أخ راشد ماذا فعل بنا ذلك المجرم؟
- علينا بالصبر الجميل.
فدُهِشت من عبارته رغم أنّها قرآنيّة و كنت ناقما إثر المصائب التي حصلت لكنّي قلت في نفسي لعلّه يريد أن يُسرّي عنّي و يهوِّن.
- لكن إلى متى أنت قابع في لندن؟
- إلى أن يجيء نصر الله و الفتح و يدخل الناس في دين الله أفواجا.
فوجدُتني لا أفقه شيئا من كلامه وجال في خاطري أنّني ربّما كنت في حلم فالتفتُّ لأتأكّد ممّا حولي فإذا لطفي زيتون جالس معنا ولم أنتبه إليه، فلمّا رأيته شعرت أنّي فهمت شيئا كان غائبا عن ذهني فقلت له :
- لقد كنت غاضبا منك و لكنّي الآن فهمت قولك و تبيّنتُ حكمتك وأنّك تريد لها الخير. يا ليتها أخذت بنصيحتك عندما قلت لها "ريض شويّة...ريض شويّة". آه "لو راضت شويّة" لكانت اليوم حيّة تُرزق. لكنّه حدجني بنظرة مستنكرة غريبة وكأنّه يقول "من هذا الأبله". فضاق صدري و امتلأ قلبي غمّا و أسى وزفرت زفرة عميقة وأردت أن أغادر لأتنفّس صافيا...
فانتبهت من الحلم فإذا بي أوشك أن أقع من الفراش و عضلاتي مشدودة و قلبي منقبض و أنا غاضب. وكانت نفثات الكابوس لمّا تغادر ذهني بعد وأنا حانق على لطفي زيتون لأنّه لم يفهمني عندما قلت له أنّه كان على حقّ. لكنّ سرعان ما استرجعت الرشد و تذكّرت أنّ في كابوسي قُمِعت الثورة و لم يكن للطفي زيتون أن يحضر حوارا تلفزيّا مع ميّة الجريبي و يقول لها "ريض شويّة...ريض شويّة" فذكّرني هذا بسبب تعكّر مزاجي قبل النوم.
ولكنّ سرعان ما غمرني الفرح و ثمل قلبي غبطة وسرورا عندما أدركت أنّ الثورة حصلت و أنّ المصائب التي رأيتها في الكابوس لم تحدث.
وليد الشريف

lundi 25 juin 2012

قراءة لمقترح المجلس المدني للتوطئة والمبادئ العامة للدستور

تجربة فريدة تلك التي خضناها نحن أعضاء المجلس المدني وبصفة خاصّة أعضاء اللجنة المكلّفة بتقديم اقتراحات للتوطئة والمبادئ العامّة للدستور.
ثلّة من النساء والرجال التونسيّين شبابا وكهولا، لا الإعلام يعرفنا ولا نحن من أعلام السياسة. أملنا كان المساهمة بالاقتراح في رسم معالم مستقبل أجمل لتونس بعد أن تملّكناها من جديد. بعد أن تحرّرت طاقات الفعل وأصبحنا نسبح في محيط من الممكن.
نعم جميلة تلك التجربة لأنّنا خضناها بحماس وإرادة وعيوننا متّقدة بالإيمان بالمستقبل وبقدرتنا على أن نكون من بين الصّانعين لغد أفضل لبلادنا حتى ولو كنّا خارج إطار الأحزاب والمشهد السياسي. فالوطن والمستقبل شأن شخصيّ في ذهن كلّ تونسي بعد أن استرجع مواطنته.
نعم صادقة تلك التجربة لأنّ اقتراحاتنا نبعت من قناعاتنا وتصوراتنا ومن آمالنا وأحلامنا ومن تجاربنا الشخصيّة فكانت أسطع دليل أنّ هذه الثورة مقدمّة لثورة حضاريّة ثقافيّة وأنها ليست ثورة جوع وفقر بل هي متعدّدة شاملة واعدة. لم تُسقط علينا الأفكار ولم تُمرّر الاقتراحات تمريرا ولم تكن لنا نسب تمثيليّة ترجّح فكرة على أخرى تحت وطأة أوزان تصويتيّة. كانت وجاهة الفكرة والمقترح هي التي تفرض نفسها و لو دافع عنها الفرد الواحد. لذلك أقول أن تجربتنا كانت متميّزة.
وبغاية الإسهام في إثراء النقاش الوطني حول مشروع الدستور الجديد، سأستعرض ما وجدته متفردّا وعلى قدر كبير من الأهميّة في مقترحنا للتوطئة والحقوق والحريّات والمبادئ العامة. ولربّما وجد الدّارس للمقترح زوايا أخرى أكثر أهميّة وأجدر بأن يتوقّف عندها.
يتهيكل مقترحنا في ثلاثة أقسام : التوطئة، إعلان الحقوق والحريّات والمبادئ العامة.
التوطئة
بعد البسملة، استُهلّت التوطئة بعبارة "نحن الشعب التونسي". ولقد وجدنا في هذه العبارة رمزيّة كبيرة تدلّل على تملّك الشعب التونسي لدستوره وتُذكّر أنّ هذا الدستور هو لكلّ الشعب وباسمه وليس نتاج توازنات تمثيليّة في المجلس التأسيسي. إنّ إقرار هذه الصيغة من شأنه أن يذكّر نوّاب الشعب أنّهم في خدمة كلّ الشعب وفي خدمة مستقبله فيتسامون عن صفتهم التمثيليّة وتغمر أذهانهم جسامة المسؤوليّة وثقل الأمانة الواجب تأديتها نحو الشعب كلّه ونحو الحاضر والمستقبل.
ثم تتناول التوطئة أهداف وضع الدستور وأُطره وفي مقدّمتها القطع مع الاستبداد والفساد ومواصلة مسيرة الإنعتاق والتحرّر وتوفير مقوّمات العيش المشترك والرّفاهة للأجيال الحاضرة والقادمة في إطار تجذّرنا في هويّتنا الإسلاميّة العربيّة ومحيطنا المغاربي المتوسّطي الإفريقي. وتخلص التوطئة إلى إعلان الشعب التونسي للتصوّرات والرؤى والقيم التي سينبني عليها دستوره : الحرية، العدالة، المساواة، علويّة القانون، التجذّر في الهوية والتعلّق بقيم الإسلام، النظام الجمهوري المدني والتوزيع العادل للثروات، إلخ.
الباب الأوّل :إعلان الحقوق والحريات
جاء الباب الأوّل في شكل إعلان لحقوق وحريّات الإنسان الأساسيّة. حقوق وحريّات تنبع من إنسانيته لا فرق فيها بين فرد وآخر. ولعلّ نصّ الفصل الأوّل أفصح من كل تحليل :
 "الفصل الأوّل : الإنسان في ذاته قيمة كونيّة لا تمييز فيها على أيّ أساس كان".
إنّه التركيز على قيمة الإنسان في المطلق وعلى المساواة في هذه القيمة بين كلّ البشر بدون توقّف وتعداد للخاصيّات كاللون والدين والجنس، إلخ. بل هي صياغة عامّة جامعة تُغني عن كل تفصيل تماهيا مع قول الله تعالى في الآية 13 من سورة الحجرات "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
في الفصل الرابع تأكيد على المساواة بين الرّجال والنساء في القانون وأمام القانون "الفصل 4 : المواطنون نساء ورجالا متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون وفي القانون".
في الفصل الخامس ضمان لحقوق المرأة ومكتسباتها مع جعل المكتسبات الواردة في مجلة الأحوال الشخصيّة حدّا أدنى يمكن الرفع منه والبناء على أساسه و لكن لا يمكن النزول دونه "الفصل 5 : حقوق المرأة وحريّاتها الفرديّة والجماعيّة مضمونة ولا يمكن سنّ قوانين تنتقص من مكتسباتها الواردة خاصّة في مجلّة الأحوال الشّخصيّة والمواثيق الدوليّة".
في الفصل السابع إقرار بحريّة الفكر والضمير والمعتقد على أن لا يحُدّ من هذه الحريّة إلاّ قانون حُصِر مجاله في تجريم العنف والتكفير وجميع أشكال التعدّي على حقوق الإنسان "الفصل 7 : لكلّ إنسان الحرية في الفكر والتعبير والمعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينيّة. و لا يُحدّ من هذه الحرية إلا بقانون يجرّم ممارسة العنف والتكفير والتحريض على العنصريّة والتعدّي على حقوق الإنسان".
الفصل التاسع شديد الأهميّة لأنّه يضع حدودا للتفويض الانتخابي فلا يكون هذا التفويض صكّا على بياض من شأنه أن يقوّض حتىّ الأسس التي انبنى عليها. فمهما كانت مسميّاتها، لا يمكن للشرعيّة أن تكون مبررا للمسّ من الحريّات العامة أو الفرديّة أو للتراجع عن النظام الجمهوري أو المبادئ الديمقراطيّة. بل إنّ هذا الفصل يُرسي عقوبة لمن ينتهك هذا المبدأ "الفصل 9 : لا يُمكن لأيّ فردٍ أو مجموعة أن يمُسّ باسم الحرّية أو الشّرعيّة الانتخابية من المبادئ الدّيمقراطيّة، ومن النّظام الجمهوري أو من الحرّيات العامّة و الفرديّة. ويُحْرَم كل منتهك لهذا المبدأ من حقوقه السياسيّة".
الباب الثاني :المبادئ العامّة
خُصّص هذا الباب للمبادئ العامة للدولة ونظامها وسياساتها. يبدأ هذا الباب بالفصل 17 وهو استعادة للفصل الأول الشهير من دستور 59 الذي يحظى بإجماع وطني، مع تصرف طفيف للتأكيد على مدنية الدولة "الفصل 17: تونس دولة مدنيّة حرّة مستقلّة ذات سيادة، الاسلام دينها والعربيّة لغتها والجمهوريّة نظامها".
الفصل 23 متفرّد لأنّه يؤكّد على احتكار الدولة لوسائل الضغط المادّي لتطبيق القانون (استعمال القوّة العامّة لتنفيذ الأحكام، الإيقاف، إلخ). ممّا من شأنه أن يرفع من جريمة استعمال القوّة ولو لتطبيق القانون، من طرف الأشخاص أو الجماعات، إلى خانة إنتهاك مبدإ دستوري. كما يؤكّد الفصل على احترام حقوق الإنسان والتناسب في استعمال القوة "الفصل 23 : تحتكر الدولة وسائل الضغط المادي لتطبيق القانون مع مراعاة مبدأ التناسب واحترام حقوق الإنسان".
الفصل 24 يضع الأهداف العامة للسياسات العموميّة وخطوطها العريضة وإطارها. فهي تهدف لتحقيق التنمية المستدامة على جميع الأصعدة : الاقتصاديّة و الثقافيّة و الاجتماعيّة. والتنمية المستدامة مفهوم يشمل الحاضر والمستقبل ويضمّ المحافظة على حقوق الأجيال القادمة في بيئة سليمة وفي ثروات البلاد وفي وراثة استراتيجيّات تنمويّة طويلة المدى واقتصاد متوازن وبلد أرسى دعائم التطوّر. كما يبيّن الفصل آليّات وأطر هذه التنمية، فهي تكون في كنف منظومة لامركزيّة وعلى أساس التوزيع المنصف للثروات والتضامن بين أفراد الشعب "الفصل 24 : تُضبط السياسات العموميّة بهدف تحقيق التنمية المستدامة على جميع الأصعدة : الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة في كنف منظومة لامركزيّة تكرّس التوزيع المنصف للثروات وترسّخ التضامن بين أفراد الشعب. وتعتبر الثقافة ركيزة أساسيّة من ركائز التنمية والتقدّم ودعم العيش المشترك".
الفصل 35 يعدّد أهمّ القيم التي وجب أن نربّي نشأنا عليها لكي نقطع مع أسباب الاستبداد والفساد والتعدّي على حقوق الإنسان ونُرسي دعائم المجتمع المتطوّر الحرّ. ويؤكّد هذا الفصل على المسؤوليّة المشتركة لجميع مكوّنات الشعب في تحقيق هذا الهدف وعلى دور التدريس والإعلام "الفصل 35 : يعمل الشعب التونسي على تربية نشئه على قيم الحريّة والجمهوريّة والمواطنة والتضامن وعلى حبّ الوطن والعلم والجمال واحترام الإنسان، وعلى النّفور من الاستبداد والتطرّف والإجرام في حقّ الغير. وهذه التربية مسؤوليّة جماعيّة تتقاسمها الدولة والأسرة والإعلام وهياكل المجتمع المدني والمؤسسات التربويّة والدينيّة. وعلى المادّة الإعلاميّة ومناهج التدريس أن تكرّس هذا الهدف".
الفصل 38 يحمل جديدا لمنظومة تحرير النصوص القانونيّة. إذ يقترح اعتماد دليل يضبط الإجراءات الشكليّة لتحرير هذه النصوص. وهي قاعدة اقترحناها لنتجنّب رداءة الصياغة التي صبغت عديد النصوص القانونيّة في بلادنا حتّى أصبحت قراءتها عبئا ثقيلا على النفس فضلا عن غياب الإنسجام في أشكال الصياغة مما ينفّر المواطن من القانون ويغرس في ذهنه أنّه مستعص عليه، موجّه لغيره وأنّه مُعدّ لظلمه والتغرير به "الفصل 38 : يتمّ تحرير النّصوص القانونيّة طبق الإجراءات الشكليّة الواردة في دليل تحرير النّصوص القانونيّة الذي يتمّ اعتماده بقانون"
أمّا الفصل الأخير (عدد 39) فهو من جهة يمنع تعديل فصول الباب الأول (الفصل 1 إلى 16) الخاصّ بالحقوق و الحريّات. ومن جهة أخرى، يحدّد طريقة تأويل فصول الدستور في حالة التباس أو غموض باستبعاد التأويل الذي يحدّ من الحريّات الفرديّة والعامّة "الفصل 39 : الفصول من 1 إلى 16 غير قابلة للتّعديل. ولا يمكن تأويل أي فصل من فصول هذا الدستور بصفة تحدّ من الحريّات الفرديّة أو العامّة".
وليد الشريف (1)
(1) نائب رئيس لجنة التوطئة و المبادئ العامة بالمجلس المدني.